قضايا اجتماعية.. الجزء الرابع عشر قضية "القلب وحجراته هل هي للإيجار أم التمليك"
القلب هو ذلك العضو الصغير والذي يأخذ شكل قبضة اليد بظاهرها وحجمها ومضمونها ، لأنه لا يتجاوز أبعادها ، ولا يختلف كثيرا عن شكلها ، ويحتاج لتلك القبضة وبتلك القوة حتى يحمي نفسه من الغزو إن تم فتحه ، ويحمي من به من التسرب والانفلات إن قمنا بتخفيف تلك القبضة ، أو قبلنا بحل إحكامها ، ونراه أيضا كعضو يقبع خلف قضبان القفص الصدري (ليس لأنه أسير ) ؛ بل لأنه يحتاج إلى درع يحميه ؛ لأهميته وشدة تأثيره وحساسيته ، وهو أيضا بين أحضان الرئة لتمده بالأكسجين الذي سيحيا به ، وتحتضنه بحنانها ورقتها حتى لا يجرحه أو يخدشه شيء ، فهي قادرة على أن تفديه بنفسها وتحميه بقوتها ، وتبقي عليه بهوائها ، ونراه ارتفع في أعلى الصدر حيث يليق به الرفعة ، فهو للعقل أقرب ، وبالكتف يُجذب ، دما نقيا خالصا يشرب ، وهو بالعلو أوجب ، وعن باقي الأعضاء يُحجب ، وإن كان يمد يده للجميع ، وكل الأعضاء به تبقى ، ومن ضعفه تخاف وترهب ، ومن ظن أنه قد يحيا بدونه فهو على نفسه يكذب .
هذا من حيث الشكل الظاهر ، والحجم و المكانة ، أما من الداخل - إن تعمقنا - سنراه مقسما إلى أربع حجرات ، اثنتان علوية ومثلها سفلية ، وأنا لن أخوض بوظائفها علميا ، ولن أتتبع عملها تقنيا ، وسأترك هذا المجال لأهله ؛ فهم به أولى ، ولكني سأصفه من منظوري ، وسأعكسه من زاويتي حسب رؤيتي و ظنوني ، وبما أن القلب مرتبط بمشاعر الكره والحب ، ودائما ما نرجعها إليه ، وهو المتحكم بالبعد والقرب كما نعرف دائما في العلاقات حيث مردودها منه إليه ودائما نراها تعتمد عليه ، ومن هذا المنطلق كانت نظرتي لها مختلفة ، وتفسيراتي لوجودها وتقيسمها بتلك الأمور مرتبطة ، فهي حجرات تم توزيعها وفصلها حسب المكانة لمن يسكنها ، وطبيعة من يقطنها ، ولكل حجرة خادم يتولى رعاية ومتابعة من فيها ، ولها ضوابط تتحكم بتصريح الدخول والخروج منها ، وكل ذلك يتم بطريقة لا إرادية لا تختلف عن طريقة عمل القلب الفعلية ، فكما أنه لا يتحكم بنبضه ، ولا يقرر سرعته أو توقفه أو استمراره ، ولا بضعفه أو حدته ، فإن حصل به تغيير فهو تهديد يحتاج لتدخل ، وعارض يتطلب علاجا ، وكذا الأمر في العلاقات التي تحكمنا بمن سنسمح لهم بالسكن بقلوبنا ، ومن سنخصص لهم زوايا من حجراته تلك ... .
فماهي تلك الحجرات ؟ وعلى أي أساس تم تقسيمها ؟ ومن سيقطن في كل حجرة فيها ؟
فهي حجرات أربع ، ( ولن نختلف على ذلك ) كما نعرف ونسمع ، الأولى منها ( حجرة خاصة جدا ) ، لا تسمح بالحقيقة بأن يشغلها أكثر من شخص واحد ، وله صلاحيات مطلقة لا يمتلكها البقية ، ولها ضوابط موثقة لا نلتزمها مع الأغلبية ، وله تأثير قوي على الحجرات الجانبية ، لأن هذه الحجرة إن كانت خالية ومهجورة سيظل القلب بحالة ضعف وخمول وكسل ، وهذا سيؤثر على باقي الحجرات ، وقد يحدث بها الخلل ، ويسود بها الكسل ، وإن امتلأت دبّت الحياة في حجراته ، وشع النور في جنباته ، واستطاع السيطرة على كل مهماته ، فهو بمن يشغل تلك الحجرة صار أقوى ، وبوجوده بها سيظل هذا القلب أعتى ، فهو الحبيب وهو القريب ، ووجوده شمس لن تغيب ، ومصدر طاقة لا ينضب ، والظن به دوما لا يخيب ، وإن كانت العلاقة بساكنها تحكمها حدود وضوابط بين حلال وحرام ، ومشروع وغير مشروع ، وإن كانت قائمة - دون غيرها - على حرية الاختيار ، إلا أنها إن تمت ستتصدر القائمة ، وإن استمرت ستكون هي المسيطرة والحاكمة ، لأنها بالتزامها وحسن اختيارها ، وبتطبيق أحكامها تتحول لقوة عارمة لا تهزم ، وعلاقة من الجميع لابد أن تُحترم ، ونحن دوما نوليها الرعاية لأنها في الحقيقة هي الأهم ، وستظل ما ظلت قائمة على أصولها المعروفة ، وسائرة بطرقها المرصوفة ، وسيظل هذا الشخص متربعا في عرش حجرته ، ومتحكما بها وبصاحب القلب الذي احتواها بمطلق إرادته وكامل رغبته ، فهو بها ومعها - وإن كان مقيدا - إلا أنها تعني له حريته ، ولكن ... ، إن رأينا هذا الشخص وقد بدأ يتجاوز صفته وكينونته ، ولم يعد يحترم جدران الحجرة التي احتوته وشملته ، فعاث بها فسادا ، وأحدث بها جروحا لا تندمل ، وسبب لها آلاما لا تُحتمل ، وانتهك حرمتها بتصرفات لا تُغتفر ، وقابلها بإهمال لا يُبرر ، وأُعطيت له الفرصة تلو الأخرى ليتعدل ولكنه لم يفعل ، عندها ... ، سيكون بالمغادرة أولى ، وترك الحجرة خالية بعده ، بات أفضل من حجزه لها وبات هذا الأمر أحرى ، حيث لم يكن جديرا بها ، ولم يعد مؤتمنا عليها ... . ولذا نلاحظ أنها الحجرة الوحيدة التي قد تظل خالية لفترات طوال ، فإما أن تمتلئ بشخص واحد يقيم فيها ولا يرتحل ، وتتعمق جذوره بها ولا تنفصل ، فنُسَخِّر لخدمته العقل والخيال ، والمشاعر والجمال ، والفكر و الجسد بلا فصال ، والروح و العضد بلا جدال ، فهو الخيمة وهو الوتد وهو المجال ، وهو الكتف وهو الذراع وهو الظهر والسند والحق فيه يقال ، وإن لم يكن لنا كما كنا نظن ، وظل باهتمامه بنا يَمُن ، ولفراقنا يحن ، يجرح ولا يداوي ، وأصبح للهجر هاوي ، وهو على البعد ناوي ، فليذهب من حيث أتى ، ولن أسأل بعده ، أين ، وكيف ، ومتى ؟ وخصوصا إن استبدَّ وعتى ، ليرحل وهو سيبقى هو ، ونحن سنظل نحن ، وليترك المجال لغيره ، ويفرغ المكان لمن هو به جدير ، فإما أن نعيد الكرة ، ونبحث عن بديل ، أو أن نبقي الحجرة فارغة وخصوصا إن كانت بعد رحيلهم بحاجة إلى ترميم وتعديل ، - وهي غالبا بحاجة - لأنه من الصعب أن يرحل حبيب دون أن يترك وراءه جراحا غائرة ، ودماء سائلة ، وندوبا ظاهرة ، وكلها بحاجة لوقت طويل حتى تبرأ وتندمل ، وبحاجة لقوة عجيبة حتى ننسى وعنها ننفصل ، ونحن بحاجة لقدرة فريدة وجرأة عنيدة حتى نقرر أن نعيد التجربة لتحيا الحجرة من جديد وتنتعش بساكنها الذي وقع عليه الاختيار ، ليعيدنا للحياة ولها بالقلب يعيد ... .
والحجرة الثانية ( حجرة الأبناء والأحفاد ) وهي حجرة تعني الحياة بلا مبالغة ، يسكنها كل من كان ضمن الحدود ، يدخلها بلا شروط أو قيود ، تقبل الزيادة ولا تقبل الحذف ، تسعد بالإضافة و تحزن عند النقص وتأسف ، سكانها فئة لهم من المكانة مالهم ، ويحظوا بالرعاية التي أوجبها الله لهم ، أحببناهم دون اختيار ، وتعلقنا بهم دون إجبار ، قربهم جنة وبعدهم نار ، ونتعلق بهم بغض النظر عن أوصافهم ، أشرارا كانوا أم من الأخيار ، فليس لنا في وجودهم قرار ، وهذا مكانهم وليس لهم دونه جوار ، وليس لنا أو لهم الخَيَار ، فإن اجتمعوا بها سخرنا القلب والعين لخدمتهم ، فالقلب محلهم وبه مقرَّهم ، والعين فرشهم ومسكنهم ، وجفنها غطاؤهم وكسوتهم ، وهدبها يحميهم وهو مما حولهم مظلتهم ، نمنحهم تأشيرة للدخول بمجرد ولادتهم ، ولكن ليس هناك تأشيرة خروج حتى بعد موتهم ، لأنه سيظل لهم ذكرهم ، وتظل بالقلب منزلتهم ، وتظل الذاكرة تستحضرهم في أيامهم حسب طريقتها وطريقتهم ، وستظل الدعوات تنهال عليهم وتختص بهم .. .
الحجرة الثالثة ( حجرة الأخوة والأخوات والأقارب ) ، وهم أيضا يدخلونها بحكم العلاقة ، دون قياس لقدرة أو لياقة ، وكَيَاسة أو لباقة ، ودون حاجة لتجمل أو أناقة ، فهم بها بسبب الروابط التي جمعتنا بهم ، وسيظلون بها طالما أنهم التزموا بأدبها ، وحافظوا على قوامها وأصل جوهرها ، وعملوا على بقائها وصفاء منظرها ، وسنسخر لخدمتهم الأذن ، واللسان ، والروح ، فالأذن تطرب لسماع كل خير عنهم ، واللسان يلهج بالدعاء لهم والسؤال عنهم ، ويغرد بذكرهم ، وينشط عند الحديث معهم ، ويأنس بمسامرتهم ، والروح ترفرف حولهم ، وبحناياها تظلهم ، وتظل تحوم بأجوائهم باحثة عنهم ، ولا تطمئن إلا بقربهم ، فلا غنى للمرء عن أهله ، ولا يرتاح الشخص إلا بأرضه وجذره ، ولا يأمن إلا بمن هم بعضه ونبضه ، ولكنهم قابلين للطرد إن تجاوزوا الحد ، وغلبهم الحقد ، وظهر عليهم الكيد ، وبنوا بيننا وبينهم ألف سد وسد ، وقصروا في حقنا ، وبالغوا بالصد ، عندها يصبح أولى من قربهم البعد ، فيغادروا ونحن عليهم نأسف ، ونبعدهم ونظل منهم نخف ، ولهم نحن و عليهم نرأف ، فما زال هناك رباط بهم يجمعنا ، وشعرة بهم تربطنا ، واسم بهم يذكرنا ، فلا نقطعه وإن بات الحبل شعره ، ولا نجحده وإن تجاوز ضره خيره ، وفاق طيبه شره ، سيظلون لنا أهل ، وسيظل لهم بالقلب محل يرحب بهم إن عادوا ، ويضمهم متى أرادوا ، ويكفي أنهم بالله يربطونا ، وعلى وصله إن وصلناهم يساعدونا ، إن أعطوا لأنفسهم المجال وأعطونا ... .
والحجرة الرابعة ( حجرة الأصدقاء والزملاء والمعارف ) وهي أكثر الحجرات اتساعا ، وتضم من الأشخاص أشكالا وأنواعا ، تنخفض بهم وترتفع لهم تباعا ، يدخلوها بلا استئذان ، ويسكنوها وتصبح لهم عنوان ، وطيب التعامل قد يشعرهم بها بالأمان ، ولا تتقيد بحدود زمان ولا ضوابط مكان ، قابلة للحذف والزيادة ، والنقص والإضافة ، ونحتاج بها لمختلف أنواع الضيافة ، تلزمنا الثقة في التعامل ، والاحترام عند التواصل ، والصدق والأمانة في المنافع وعند التبادل ، ومراعاة الله في الخصومات لتحقيق التوافق والتكامل ، فيها درجات ومنازل ، وتفاوت في القربى بلا قبول للتنازل ، يرتقي فيها الأشخاص حسب حضورهم ، ويتنقلون بالمنازل حسب مواقفهم وسلوكهم ، فقد يرتقون القمة ، وقد يهبطون إلى القاع ، والفاصل بينهما التعامل ... .
وكل من دخل تلك الحجرة وبها أقام ، بمختلف المراتب والدرجات ، ستجري عليه تلك الأحكام ، وسنسخر لخدمتهم العقل والمنطق ، والإحساس الذي لمكانتهم ومقصدهم سيدرك ، فيرفع من يستحق ، ويخفض من سيخفق ، وسيبقي من يليق ، و يستبعد منها من سيُتْعِبُ القلب مكوثه به ، ولمن حوله سيرهق ، فيخرج منها دون أسف على خروجه ، وستظل بها بصمته وأثره بالفترة الكافية لمحوه ونسيان فترة وجوده ... .
وكل إنسان منا بطبيعة الحال ، يشرف على قلبه دون إدراك ، وينظر في حجراته وإن لم يستطع الحراك ، وله فيه مع ساكنيه أوسع نطاق وعدة أفلاك ، وعقار وأملاك ، فمنهم من يمتلك دون سند ، ومنهم من يستأجر ، ومنهم من يمكث للأبد ومنهم من يغادر ، فهو قابل للامتلاك أو التأجير ، ولكن المقابل له ليس درهم ولا دينار ، ولا ريال ولا دولار ، ولكنهم يمتلكون قلوبنا بالحب والرعاية والاهتمام ، ويسكنون حجراته بالتودد وحسن الكلام ، ويملؤون فراغه بكل انسجام ، فمعهم القلب ينبض دون ارتعاش ، ويحيا دون انعاش ، ولا يحتاج إلى فراش ، حتى من مات منهم سيظل إن به عاش ، فهذا القلب للأحباب مني ، وقد استلمت ثمنه من حبهم ( كاش ) ،
وهنا أدرك بأنه حًسِم النقاش ... .
هذا من حيث الشكل الظاهر ، والحجم و المكانة ، أما من الداخل - إن تعمقنا - سنراه مقسما إلى أربع حجرات ، اثنتان علوية ومثلها سفلية ، وأنا لن أخوض بوظائفها علميا ، ولن أتتبع عملها تقنيا ، وسأترك هذا المجال لأهله ؛ فهم به أولى ، ولكني سأصفه من منظوري ، وسأعكسه من زاويتي حسب رؤيتي و ظنوني ، وبما أن القلب مرتبط بمشاعر الكره والحب ، ودائما ما نرجعها إليه ، وهو المتحكم بالبعد والقرب كما نعرف دائما في العلاقات حيث مردودها منه إليه ودائما نراها تعتمد عليه ، ومن هذا المنطلق كانت نظرتي لها مختلفة ، وتفسيراتي لوجودها وتقيسمها بتلك الأمور مرتبطة ، فهي حجرات تم توزيعها وفصلها حسب المكانة لمن يسكنها ، وطبيعة من يقطنها ، ولكل حجرة خادم يتولى رعاية ومتابعة من فيها ، ولها ضوابط تتحكم بتصريح الدخول والخروج منها ، وكل ذلك يتم بطريقة لا إرادية لا تختلف عن طريقة عمل القلب الفعلية ، فكما أنه لا يتحكم بنبضه ، ولا يقرر سرعته أو توقفه أو استمراره ، ولا بضعفه أو حدته ، فإن حصل به تغيير فهو تهديد يحتاج لتدخل ، وعارض يتطلب علاجا ، وكذا الأمر في العلاقات التي تحكمنا بمن سنسمح لهم بالسكن بقلوبنا ، ومن سنخصص لهم زوايا من حجراته تلك ... .
فماهي تلك الحجرات ؟ وعلى أي أساس تم تقسيمها ؟ ومن سيقطن في كل حجرة فيها ؟
فهي حجرات أربع ، ( ولن نختلف على ذلك ) كما نعرف ونسمع ، الأولى منها ( حجرة خاصة جدا ) ، لا تسمح بالحقيقة بأن يشغلها أكثر من شخص واحد ، وله صلاحيات مطلقة لا يمتلكها البقية ، ولها ضوابط موثقة لا نلتزمها مع الأغلبية ، وله تأثير قوي على الحجرات الجانبية ، لأن هذه الحجرة إن كانت خالية ومهجورة سيظل القلب بحالة ضعف وخمول وكسل ، وهذا سيؤثر على باقي الحجرات ، وقد يحدث بها الخلل ، ويسود بها الكسل ، وإن امتلأت دبّت الحياة في حجراته ، وشع النور في جنباته ، واستطاع السيطرة على كل مهماته ، فهو بمن يشغل تلك الحجرة صار أقوى ، وبوجوده بها سيظل هذا القلب أعتى ، فهو الحبيب وهو القريب ، ووجوده شمس لن تغيب ، ومصدر طاقة لا ينضب ، والظن به دوما لا يخيب ، وإن كانت العلاقة بساكنها تحكمها حدود وضوابط بين حلال وحرام ، ومشروع وغير مشروع ، وإن كانت قائمة - دون غيرها - على حرية الاختيار ، إلا أنها إن تمت ستتصدر القائمة ، وإن استمرت ستكون هي المسيطرة والحاكمة ، لأنها بالتزامها وحسن اختيارها ، وبتطبيق أحكامها تتحول لقوة عارمة لا تهزم ، وعلاقة من الجميع لابد أن تُحترم ، ونحن دوما نوليها الرعاية لأنها في الحقيقة هي الأهم ، وستظل ما ظلت قائمة على أصولها المعروفة ، وسائرة بطرقها المرصوفة ، وسيظل هذا الشخص متربعا في عرش حجرته ، ومتحكما بها وبصاحب القلب الذي احتواها بمطلق إرادته وكامل رغبته ، فهو بها ومعها - وإن كان مقيدا - إلا أنها تعني له حريته ، ولكن ... ، إن رأينا هذا الشخص وقد بدأ يتجاوز صفته وكينونته ، ولم يعد يحترم جدران الحجرة التي احتوته وشملته ، فعاث بها فسادا ، وأحدث بها جروحا لا تندمل ، وسبب لها آلاما لا تُحتمل ، وانتهك حرمتها بتصرفات لا تُغتفر ، وقابلها بإهمال لا يُبرر ، وأُعطيت له الفرصة تلو الأخرى ليتعدل ولكنه لم يفعل ، عندها ... ، سيكون بالمغادرة أولى ، وترك الحجرة خالية بعده ، بات أفضل من حجزه لها وبات هذا الأمر أحرى ، حيث لم يكن جديرا بها ، ولم يعد مؤتمنا عليها ... . ولذا نلاحظ أنها الحجرة الوحيدة التي قد تظل خالية لفترات طوال ، فإما أن تمتلئ بشخص واحد يقيم فيها ولا يرتحل ، وتتعمق جذوره بها ولا تنفصل ، فنُسَخِّر لخدمته العقل والخيال ، والمشاعر والجمال ، والفكر و الجسد بلا فصال ، والروح و العضد بلا جدال ، فهو الخيمة وهو الوتد وهو المجال ، وهو الكتف وهو الذراع وهو الظهر والسند والحق فيه يقال ، وإن لم يكن لنا كما كنا نظن ، وظل باهتمامه بنا يَمُن ، ولفراقنا يحن ، يجرح ولا يداوي ، وأصبح للهجر هاوي ، وهو على البعد ناوي ، فليذهب من حيث أتى ، ولن أسأل بعده ، أين ، وكيف ، ومتى ؟ وخصوصا إن استبدَّ وعتى ، ليرحل وهو سيبقى هو ، ونحن سنظل نحن ، وليترك المجال لغيره ، ويفرغ المكان لمن هو به جدير ، فإما أن نعيد الكرة ، ونبحث عن بديل ، أو أن نبقي الحجرة فارغة وخصوصا إن كانت بعد رحيلهم بحاجة إلى ترميم وتعديل ، - وهي غالبا بحاجة - لأنه من الصعب أن يرحل حبيب دون أن يترك وراءه جراحا غائرة ، ودماء سائلة ، وندوبا ظاهرة ، وكلها بحاجة لوقت طويل حتى تبرأ وتندمل ، وبحاجة لقوة عجيبة حتى ننسى وعنها ننفصل ، ونحن بحاجة لقدرة فريدة وجرأة عنيدة حتى نقرر أن نعيد التجربة لتحيا الحجرة من جديد وتنتعش بساكنها الذي وقع عليه الاختيار ، ليعيدنا للحياة ولها بالقلب يعيد ... .
والحجرة الثانية ( حجرة الأبناء والأحفاد ) وهي حجرة تعني الحياة بلا مبالغة ، يسكنها كل من كان ضمن الحدود ، يدخلها بلا شروط أو قيود ، تقبل الزيادة ولا تقبل الحذف ، تسعد بالإضافة و تحزن عند النقص وتأسف ، سكانها فئة لهم من المكانة مالهم ، ويحظوا بالرعاية التي أوجبها الله لهم ، أحببناهم دون اختيار ، وتعلقنا بهم دون إجبار ، قربهم جنة وبعدهم نار ، ونتعلق بهم بغض النظر عن أوصافهم ، أشرارا كانوا أم من الأخيار ، فليس لنا في وجودهم قرار ، وهذا مكانهم وليس لهم دونه جوار ، وليس لنا أو لهم الخَيَار ، فإن اجتمعوا بها سخرنا القلب والعين لخدمتهم ، فالقلب محلهم وبه مقرَّهم ، والعين فرشهم ومسكنهم ، وجفنها غطاؤهم وكسوتهم ، وهدبها يحميهم وهو مما حولهم مظلتهم ، نمنحهم تأشيرة للدخول بمجرد ولادتهم ، ولكن ليس هناك تأشيرة خروج حتى بعد موتهم ، لأنه سيظل لهم ذكرهم ، وتظل بالقلب منزلتهم ، وتظل الذاكرة تستحضرهم في أيامهم حسب طريقتها وطريقتهم ، وستظل الدعوات تنهال عليهم وتختص بهم .. .
الحجرة الثالثة ( حجرة الأخوة والأخوات والأقارب ) ، وهم أيضا يدخلونها بحكم العلاقة ، دون قياس لقدرة أو لياقة ، وكَيَاسة أو لباقة ، ودون حاجة لتجمل أو أناقة ، فهم بها بسبب الروابط التي جمعتنا بهم ، وسيظلون بها طالما أنهم التزموا بأدبها ، وحافظوا على قوامها وأصل جوهرها ، وعملوا على بقائها وصفاء منظرها ، وسنسخر لخدمتهم الأذن ، واللسان ، والروح ، فالأذن تطرب لسماع كل خير عنهم ، واللسان يلهج بالدعاء لهم والسؤال عنهم ، ويغرد بذكرهم ، وينشط عند الحديث معهم ، ويأنس بمسامرتهم ، والروح ترفرف حولهم ، وبحناياها تظلهم ، وتظل تحوم بأجوائهم باحثة عنهم ، ولا تطمئن إلا بقربهم ، فلا غنى للمرء عن أهله ، ولا يرتاح الشخص إلا بأرضه وجذره ، ولا يأمن إلا بمن هم بعضه ونبضه ، ولكنهم قابلين للطرد إن تجاوزوا الحد ، وغلبهم الحقد ، وظهر عليهم الكيد ، وبنوا بيننا وبينهم ألف سد وسد ، وقصروا في حقنا ، وبالغوا بالصد ، عندها يصبح أولى من قربهم البعد ، فيغادروا ونحن عليهم نأسف ، ونبعدهم ونظل منهم نخف ، ولهم نحن و عليهم نرأف ، فما زال هناك رباط بهم يجمعنا ، وشعرة بهم تربطنا ، واسم بهم يذكرنا ، فلا نقطعه وإن بات الحبل شعره ، ولا نجحده وإن تجاوز ضره خيره ، وفاق طيبه شره ، سيظلون لنا أهل ، وسيظل لهم بالقلب محل يرحب بهم إن عادوا ، ويضمهم متى أرادوا ، ويكفي أنهم بالله يربطونا ، وعلى وصله إن وصلناهم يساعدونا ، إن أعطوا لأنفسهم المجال وأعطونا ... .
والحجرة الرابعة ( حجرة الأصدقاء والزملاء والمعارف ) وهي أكثر الحجرات اتساعا ، وتضم من الأشخاص أشكالا وأنواعا ، تنخفض بهم وترتفع لهم تباعا ، يدخلوها بلا استئذان ، ويسكنوها وتصبح لهم عنوان ، وطيب التعامل قد يشعرهم بها بالأمان ، ولا تتقيد بحدود زمان ولا ضوابط مكان ، قابلة للحذف والزيادة ، والنقص والإضافة ، ونحتاج بها لمختلف أنواع الضيافة ، تلزمنا الثقة في التعامل ، والاحترام عند التواصل ، والصدق والأمانة في المنافع وعند التبادل ، ومراعاة الله في الخصومات لتحقيق التوافق والتكامل ، فيها درجات ومنازل ، وتفاوت في القربى بلا قبول للتنازل ، يرتقي فيها الأشخاص حسب حضورهم ، ويتنقلون بالمنازل حسب مواقفهم وسلوكهم ، فقد يرتقون القمة ، وقد يهبطون إلى القاع ، والفاصل بينهما التعامل ... .
وكل من دخل تلك الحجرة وبها أقام ، بمختلف المراتب والدرجات ، ستجري عليه تلك الأحكام ، وسنسخر لخدمتهم العقل والمنطق ، والإحساس الذي لمكانتهم ومقصدهم سيدرك ، فيرفع من يستحق ، ويخفض من سيخفق ، وسيبقي من يليق ، و يستبعد منها من سيُتْعِبُ القلب مكوثه به ، ولمن حوله سيرهق ، فيخرج منها دون أسف على خروجه ، وستظل بها بصمته وأثره بالفترة الكافية لمحوه ونسيان فترة وجوده ... .
وكل إنسان منا بطبيعة الحال ، يشرف على قلبه دون إدراك ، وينظر في حجراته وإن لم يستطع الحراك ، وله فيه مع ساكنيه أوسع نطاق وعدة أفلاك ، وعقار وأملاك ، فمنهم من يمتلك دون سند ، ومنهم من يستأجر ، ومنهم من يمكث للأبد ومنهم من يغادر ، فهو قابل للامتلاك أو التأجير ، ولكن المقابل له ليس درهم ولا دينار ، ولا ريال ولا دولار ، ولكنهم يمتلكون قلوبنا بالحب والرعاية والاهتمام ، ويسكنون حجراته بالتودد وحسن الكلام ، ويملؤون فراغه بكل انسجام ، فمعهم القلب ينبض دون ارتعاش ، ويحيا دون انعاش ، ولا يحتاج إلى فراش ، حتى من مات منهم سيظل إن به عاش ، فهذا القلب للأحباب مني ، وقد استلمت ثمنه من حبهم ( كاش ) ،
وهنا أدرك بأنه حًسِم النقاش ... .