"العاديات"
قال تعالى: "والعاديات ضبحا* فالموريات قدحا* فالمغيرات صبحا* فأثرن به نقعا* فوسطن به جمعا".
أقسم الله عز وجل في هذه الآيات بالخيل، تعظيماً لها بأساليب بلاغية عذبة، تطرب الأسماع بأنغام السجع البديع، والجناس الصوتي المتناسق.
استهل في بداية السورة بالقسم بأوصاف الخيل، حال عدوها الضابح والسريع المشعل للنار، وإغارتها الصباحية المفاجئة والمثيرة للنقع والمباغته لميدان الأعداء، فلا ينتبهون لها إلا وهي وسط جموعهم، وكأنك أمام مشهد جميل، التقطت منه عدة لقطات متناسقة، ومعبره عما يحويه المشهد من إبداع على النحو التالي:
في الآية الأولى: جاءت فيه صورة الخيل وهي تعدو مسرعة وركزت اللقطة على مسمى الضبح الذي تعرفه العرب من الخيل، وهو صوت أنفاسها المرتفعة وأضلاعها المنتفخة بسبب عدوها السريع، قال تعالى في مطلع السورة "والعاديات ضبحا (١)".
وفي الآية الثانية: انتقل المشهد إلى لقطة مقربة لحوافرها التي تقدح شراراً عند اصتكاكها بالصخور، تأكيداً لمدى سرعتها المفرطة، وقد شُبه ذلك الاحتكاك بالمُوري الذي يُشعل النار، قال تعالى: "فالموريات قدحا(٢)".
وفي الآية الثالثة: حددت المكان والزمان الذي تجري إليه الخيل، وهو ميدان الأعداء لمباغتتهم في أول النهار، وركزت اللقطة على وقت الصبح، لاضافة عنصر المفاجأة والمباغته عند شن الإغارة، قال تعالى: "فالمغيرات صبحا(٣)".
وفي الآية الرابعة: صور المشهد ميدان أرض المعركة، ولكن بلقطة مقربة للتراب والغبار الذي كان غائراً وساكناً قبل أن تثيره وتبعثره أقدام تلك الخيول بصولاتها وجولاتها، قال تعالى "فأثرن به نقعا(٤)".
أما الآية الخامسة: ختمت تلك المشاهد والصور بلقطة ختامية جمعت جميع أطراف المكان، لتحدد مركز الوسط فيه، بصورة ابداعية مليئة بالإنجاز، ولقطة واسعة تظهر لك منظر الخيل مع فارسها بعد انكشاف الغبار، وقد فاجأت الجميع باختراق صفوف العدو وتمركزها وسط ميدان المعركة، مضحية بنفسها بين جموع الأعداء فداءً لفارسها، قال تعالى: "فوسطن به جمعا(٥)".
أقسم الله بكل هذا الجمال تعظيماً لما تبذله تلك الخيول من تضحيات والتي لن تجد في عالم الإنتاج السينمائي والروائي جمال كتلك اللقطات والصور نظراً لما تحويه من تصوير بياني وصوتي ومرئي وزماني ومكاني وتنسيق بلاغي جميل تتناغم فيه الكلمات والصور مخرجةً لك تلك المشاهد الجميلة والمعبره عن الحياة اليومية للمغيرات صبحا.
والسؤال المطروح بعد ذلك ياتُرى، ماهو جواب القسم لكل تلك المشاهد واللقطات البلاغة...
الجواب سيدهشك، باختصار أن هذا القسم جاء ليقارن طباع تلك الخيول الوفية والممتنه لفارسها وسيدها بحال الإنسان الذي قد تجده عند المصائب يشتكي متذمراً وناسياً فضل الله عليه، وعُبر عن تلك الحالة بالإنسان الكنود.
ولو فتشنا في بطون الكتب، عن سمات الشخص الكنود لوجدناه يُوصف عادةً بصفات سلبية، تستلزم جحود النعمة وكفرها وإنكار الجميل، ومن أبرزها:
- الجحود والنكران: فلا يعترف بالنعم التي تحيط به، سواء كانت من الله أو من الناس، ويميل إلى إنكارها، أو التقليل من قيمتها.
- قلة الشكر: يشعر أن ما يحصل عليه من خير هو حق له، وليست نعمة تستحق الشكر.
- كثرت التذمر: متشائم دائماً، يميل إلى كثرت اللوم، والتركيز على الأمور السلبية في حياته، ويتجاهل ما يمتلكه من النعم.
- عدم الرضا: يشعر دائمًا أنه يستحق الأفضل، وأن ما لديه غير كافٍ، فلا يرضى بما قسمه الله له.
هذه الصفات تجعل الشخص الكنود غير محبوب بين الناس، لأنه لا يعترف بالإحسان، ويصعب التعامل معه، بسبب نكرانه المستمر للجميل.
ورغم ذلك، إلا أن الله لم يتركه على تلك الحالة، بل بين سبحانه طريق علاجها كمنهج علاجي اختصرته هذه الآيات على مرحلتين:
المرحلة الأولى: وتبدأ أولاً بالاعتراف بوجود الحالة الكندية، ثم تحديد أسبابها، فعبر سبحانه بالشهادة كإحدى طرق الإثبات، فقال تعالى: "وإنه على ذلك لشهيد" وكأنه أمام محكمة يشهد فيها على نفسه، ثم الله شاهد عليه.
وبعد الاعتراف جاء تحديد الباعث والسبب بقوله تعالى: "وإنه لحب الخير لشديد"، وهي تُعبّر عن شدة تعلق القلب بالأموال والأمور الدنيوية التي ينشدها الإنسان في حياته، ولو كانت على حساب القيم والأخلاق والمبادئ، لذلك تجده شحيح النفس، بخيل الطبع، قد امتلأ قلبه حباً وتعلقاً بما يظنه خيرا، ينقلب حاله جحوداً ونكراناً بفقده وتغيره.
ولو جعل حب الله مقدماً دائماً، لعرف فضله عليه، وبادر مسرعاً ومتفانياً في مرضاته، وصدق من قال: حين تكون النفس متطلعة لرضى ربها؛ تُسابق في كل طريق يوصلها إليه كالخيول العاديات، متمثلة قوله تعالى: "وعجلت إليك ربي لترضى".
قال تعالى في جواب القسم بالعاديات: "إن الإنسان لربه لكنود (٦) وإنه على ذلك لشهيد (٧) وإنه لحب الخير لشديد(٨)".
أما المرحلة الثانية: جاءت في ختام هذه السورة لتذكير الإنسان بالهدف الذي خُلق من أجله، وماينتظره من حساب لأجله، بعد بعثرت القبور، وخروج أهلها منها وقيام الساعة لتحصيل الأعمال، والتي من أهمها أعمال القلوب، إشارة منه سبحانه أن علاج تلك الحاله الكندية، يبدأ أولاً بصلاح بواطن الصدور، والتي لا يطلع عليها إلا الله العالم الخبير بأعمال عباده. كما جاء في صحيح مسلم رحمه الله عن النبي ﷺ أنه قال: "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".
وأن في صلاح القلب صلاح أعمال الجوارح كما جاء في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب"
لذلك كان أكثر دعاء النبي ﷺ "يامقلب القلوب ثبت قلبي على دينك".
وعلاقة ورود بعثرة القبور بمطلع السورة "والعاديات ضبحا" إشارة إلى سرعة هذه الحياة الدنيا، وأن النهاية ستغير علينا جميعا فجأة، "كالمغيرات صبحا".
ولذلك ختم الله هذه السورة بسؤال يستحق التأمل، قال تعالى: " أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور(٩) وحصل ما في الصدور (١٠) إن ربهم بهم يومئذ لخبير(١١)".
بقلم رئيس قسم الشريعة
د.يحيى بن محمد سليمان عري.
أقسم الله عز وجل في هذه الآيات بالخيل، تعظيماً لها بأساليب بلاغية عذبة، تطرب الأسماع بأنغام السجع البديع، والجناس الصوتي المتناسق.
استهل في بداية السورة بالقسم بأوصاف الخيل، حال عدوها الضابح والسريع المشعل للنار، وإغارتها الصباحية المفاجئة والمثيرة للنقع والمباغته لميدان الأعداء، فلا ينتبهون لها إلا وهي وسط جموعهم، وكأنك أمام مشهد جميل، التقطت منه عدة لقطات متناسقة، ومعبره عما يحويه المشهد من إبداع على النحو التالي:
في الآية الأولى: جاءت فيه صورة الخيل وهي تعدو مسرعة وركزت اللقطة على مسمى الضبح الذي تعرفه العرب من الخيل، وهو صوت أنفاسها المرتفعة وأضلاعها المنتفخة بسبب عدوها السريع، قال تعالى في مطلع السورة "والعاديات ضبحا (١)".
وفي الآية الثانية: انتقل المشهد إلى لقطة مقربة لحوافرها التي تقدح شراراً عند اصتكاكها بالصخور، تأكيداً لمدى سرعتها المفرطة، وقد شُبه ذلك الاحتكاك بالمُوري الذي يُشعل النار، قال تعالى: "فالموريات قدحا(٢)".
وفي الآية الثالثة: حددت المكان والزمان الذي تجري إليه الخيل، وهو ميدان الأعداء لمباغتتهم في أول النهار، وركزت اللقطة على وقت الصبح، لاضافة عنصر المفاجأة والمباغته عند شن الإغارة، قال تعالى: "فالمغيرات صبحا(٣)".
وفي الآية الرابعة: صور المشهد ميدان أرض المعركة، ولكن بلقطة مقربة للتراب والغبار الذي كان غائراً وساكناً قبل أن تثيره وتبعثره أقدام تلك الخيول بصولاتها وجولاتها، قال تعالى "فأثرن به نقعا(٤)".
أما الآية الخامسة: ختمت تلك المشاهد والصور بلقطة ختامية جمعت جميع أطراف المكان، لتحدد مركز الوسط فيه، بصورة ابداعية مليئة بالإنجاز، ولقطة واسعة تظهر لك منظر الخيل مع فارسها بعد انكشاف الغبار، وقد فاجأت الجميع باختراق صفوف العدو وتمركزها وسط ميدان المعركة، مضحية بنفسها بين جموع الأعداء فداءً لفارسها، قال تعالى: "فوسطن به جمعا(٥)".
أقسم الله بكل هذا الجمال تعظيماً لما تبذله تلك الخيول من تضحيات والتي لن تجد في عالم الإنتاج السينمائي والروائي جمال كتلك اللقطات والصور نظراً لما تحويه من تصوير بياني وصوتي ومرئي وزماني ومكاني وتنسيق بلاغي جميل تتناغم فيه الكلمات والصور مخرجةً لك تلك المشاهد الجميلة والمعبره عن الحياة اليومية للمغيرات صبحا.
والسؤال المطروح بعد ذلك ياتُرى، ماهو جواب القسم لكل تلك المشاهد واللقطات البلاغة...
الجواب سيدهشك، باختصار أن هذا القسم جاء ليقارن طباع تلك الخيول الوفية والممتنه لفارسها وسيدها بحال الإنسان الذي قد تجده عند المصائب يشتكي متذمراً وناسياً فضل الله عليه، وعُبر عن تلك الحالة بالإنسان الكنود.
ولو فتشنا في بطون الكتب، عن سمات الشخص الكنود لوجدناه يُوصف عادةً بصفات سلبية، تستلزم جحود النعمة وكفرها وإنكار الجميل، ومن أبرزها:
- الجحود والنكران: فلا يعترف بالنعم التي تحيط به، سواء كانت من الله أو من الناس، ويميل إلى إنكارها، أو التقليل من قيمتها.
- قلة الشكر: يشعر أن ما يحصل عليه من خير هو حق له، وليست نعمة تستحق الشكر.
- كثرت التذمر: متشائم دائماً، يميل إلى كثرت اللوم، والتركيز على الأمور السلبية في حياته، ويتجاهل ما يمتلكه من النعم.
- عدم الرضا: يشعر دائمًا أنه يستحق الأفضل، وأن ما لديه غير كافٍ، فلا يرضى بما قسمه الله له.
هذه الصفات تجعل الشخص الكنود غير محبوب بين الناس، لأنه لا يعترف بالإحسان، ويصعب التعامل معه، بسبب نكرانه المستمر للجميل.
ورغم ذلك، إلا أن الله لم يتركه على تلك الحالة، بل بين سبحانه طريق علاجها كمنهج علاجي اختصرته هذه الآيات على مرحلتين:
المرحلة الأولى: وتبدأ أولاً بالاعتراف بوجود الحالة الكندية، ثم تحديد أسبابها، فعبر سبحانه بالشهادة كإحدى طرق الإثبات، فقال تعالى: "وإنه على ذلك لشهيد" وكأنه أمام محكمة يشهد فيها على نفسه، ثم الله شاهد عليه.
وبعد الاعتراف جاء تحديد الباعث والسبب بقوله تعالى: "وإنه لحب الخير لشديد"، وهي تُعبّر عن شدة تعلق القلب بالأموال والأمور الدنيوية التي ينشدها الإنسان في حياته، ولو كانت على حساب القيم والأخلاق والمبادئ، لذلك تجده شحيح النفس، بخيل الطبع، قد امتلأ قلبه حباً وتعلقاً بما يظنه خيرا، ينقلب حاله جحوداً ونكراناً بفقده وتغيره.
ولو جعل حب الله مقدماً دائماً، لعرف فضله عليه، وبادر مسرعاً ومتفانياً في مرضاته، وصدق من قال: حين تكون النفس متطلعة لرضى ربها؛ تُسابق في كل طريق يوصلها إليه كالخيول العاديات، متمثلة قوله تعالى: "وعجلت إليك ربي لترضى".
قال تعالى في جواب القسم بالعاديات: "إن الإنسان لربه لكنود (٦) وإنه على ذلك لشهيد (٧) وإنه لحب الخير لشديد(٨)".
أما المرحلة الثانية: جاءت في ختام هذه السورة لتذكير الإنسان بالهدف الذي خُلق من أجله، وماينتظره من حساب لأجله، بعد بعثرت القبور، وخروج أهلها منها وقيام الساعة لتحصيل الأعمال، والتي من أهمها أعمال القلوب، إشارة منه سبحانه أن علاج تلك الحاله الكندية، يبدأ أولاً بصلاح بواطن الصدور، والتي لا يطلع عليها إلا الله العالم الخبير بأعمال عباده. كما جاء في صحيح مسلم رحمه الله عن النبي ﷺ أنه قال: "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".
وأن في صلاح القلب صلاح أعمال الجوارح كما جاء في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب"
لذلك كان أكثر دعاء النبي ﷺ "يامقلب القلوب ثبت قلبي على دينك".
وعلاقة ورود بعثرة القبور بمطلع السورة "والعاديات ضبحا" إشارة إلى سرعة هذه الحياة الدنيا، وأن النهاية ستغير علينا جميعا فجأة، "كالمغيرات صبحا".
ولذلك ختم الله هذه السورة بسؤال يستحق التأمل، قال تعالى: " أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور(٩) وحصل ما في الصدور (١٠) إن ربهم بهم يومئذ لخبير(١١)".
بقلم رئيس قسم الشريعة
د.يحيى بن محمد سليمان عري.