إن ما يتفق عليه كل عاقل في المملكة وغيرها، هو أن برنامج الابتعاث كان نقلة نوعية على مستوى الوعي الشبابي، والمجتمعي في المملكة، وأنه يعد خطوة غير عادية على مستوى التفكير، فهذه الخطوة صدمت المجتمع بالحقيقة التي يفترض أن يعيها منذ أكثر من ثلاثة عقود.
فما أعرفه جيدا بأن برنامج الابتعاث في كل سنة من سنواته يصبح أكثر زخما، فعدد الطلاب والطالبات في هذا البرنامج في كل سنة في ازدياد، وهذا يعني بأن المجتمع بدأ يتعامل مع الابتعاث على أنه شيء ضروري، وجزء مهم ينبغي على الشاب أن يتقاطع معه، حتى وإن كان ثمة نظرة بأن المبتعث معرّض للانحراف أكثر منه للنجاح في هذه الخطوة العلمية والعملية.
لكن ما يحيّر في هذه الخطوة الحضارية أن ثمة ازدواجية فظيعة لدى المبتعث السعودي، سواء كان شابا أو فتاة، ولأن التعميم منطقة توقعنا في الأخطاء دائما، فأنا حينما أقول ثمة ازدواجية لدى المبتعث السعودي فأعني أن هناك مجموعة هائلة من المبتعثين سواء كانوا ذكورا أو إناثا يمرون بأزمة غير عادية في تعاطيهم مع الحياة، ومع أنفسهم، والأهم تعاطيهم مع أبناء جلدتهم ووطنهم!
فأن تكون مبتعثا معناه أن تكون قادرا على التماهي مع الآخرين، والتعايش معهم، وتقبلهم، والوقوف أمام ثقافات الآخرين باحترام بعيدا عن الإرث الثقافي الذي لم يعلمنا كيف يمكن أن نتقبل الآخرين بكل ما يحملون؟ لكن أن تكون مبتعثا وتحمل كل هذه القناعات الرائعة، في احترام الآخر، والتماهي معه، والتعايش أيضا، وحين تلتقي مع أحد أبناء بلدك يظهر في داخلك ذلك الغول الضخم الذي ينثر ثقافة الإقصاء، وعدم التقبل، والتعصب القبلي، والنزعة الدينية غير المبررة وغير المنطقية، فأنت حتما تعاني من ازدواجية رهيبة، ومرَضِيّة في ذات الوقت.
فنحن ربما نجد طالبا سعوديا والطالبات جزء أيضا يتعايش مع طالب صيني، أو ياباني، أو برازيلي، يختلف عنه دينا، وثقافة، ووعيا، ومعيشة أيضا، وتجدهم في تعاملهم مع ذلك الطالب لا يتصادمان، ولا يتلاعنان، إنما علاقة صداقتهما تلك مبنيّة على الاحترام والحب والتقبّل، في الوقت الذي نجد ذات الشاب أو ذات الفتاة - حينما يجتمع بطلاب سعوديين ممن يشاركونه دينه، وثقافته، ووعيه أحيانا، وفي نفس معيشته نجده يتبرأ من كل تلك الصفات التي كان يتعامل مع البرازيلي أو الياباني، أو الصيني من خلالها، فتكون القبيلة، أو الصراخ، أو الشتم، أو عدم التقبل هي المسيطرة عليه في تلك اللحظة!
أعتقد بأن القانون الذي فرضته البلاد التي يعيش فيها المبتعثين كان له دور في تقبل المبتعث لغيره من الناس، أو لمن يختلف عنه دينا، ووعيا، وثقافة، وبالتالي هو لا يخشى إلا من سوط القانون، ولا يتعامل معهم من خلال وعي يتصاعد، أو من خلال معرفة حقيقية بالكائن الإنساني، وتقبل التعدد مهما كان، في الوقت الذي يجد نفسه أمام الطلاب السعوديين خارجا عن سلطة القانون تلك، فالطالب السعودي مهما اختلفت معه، ومهما شتمته فلن يتقدم بشكوى ضدك أبدا، وأنا لا أنكر سلطة القانون، فالإنسان يحتاج في البداية إلى قانون ليتربّى، ولا يحتاج إلى مواعظ دينية أو تربوية، فالقانون يربي أكثر من المواعظ، لكن أعتقد بأن الطالب السعودي الذي يخرج لخارج البلد ليدرس دراسات عليا هو لا يتعامل مع الناس هناك بعقلية (شريطي) السيارات، أو بعقلية (جندي) لا يحمل إلا شهادة الابتدائية، فالمفترض أن يكون للعلم الذي يبحث عنه هذا المبتعث دور في تكوين شخصية حيادية، لا تقبل التطرف، ولا تؤمن به، وتتخلى عن كل ما يحمله ذلك الغول من إرث ثقافي مشوّه.
فالمنطق يقول دائما بأننا لا نستطيع أن نتقبّل الآخرين، لكننا نستطيع أن نتقبّل من يشبهنا، لكن مع المبتعثين حصل عكس ذلك تماما، فأكاد أجزم بأن تعامل الطالب السعودي مع غيره من السعوديين يحمل كما هائلا من الريبة التي لا نجدها في تعامل الطالب السعودي مع غيره مما كانوا يحملون أديانا، أو جنسيات مختلفة، فثمة عقلية سائدة في التعامل الإنساني الذي يعيش بها الطلاب هناك، وهي ( السعوديين بيفضحونا لو رجعنا، لكن غيرهم بنسافر وبننساهم وينسوننا، ولا بيفضحونا فينا ).
إن الابتعاث ليس رحلة دراسية مدفوعة الثمن وكفى، إن الابتعاث حياة ينبغي على الطالب أن يستفيد منها في كل جوانب حياته، الاجتماعية، والنفسية، والاقتصادية، والعلمية، وأن يدرك بأن الفرد السعودي مثله مثل أي فرد من أفراد هذا العالم، وأن يتعامل معه من خلال وسطية مطروحة دائما كفكرة إسلامية، فالإنسان الحقيقي لا ينتظر عادة إلا من يحترمه، ومن يضعه في حيزه الحقيقي، ولا ينتظر أن يمجده أو يُقدّسه بلا مبرر!
في النهاية لا يعني أن يخرج المبتعث من هذا البلد لينسلخ من كل ما يؤمن به، لكن يجب أن يكون لديه الحس الواعي الذي يعرف كيف وماذا ينقل معه من إرثه الثقافي؟ وأن يحاول أن يمرر ما يجده نافعا لأولئك الذين لا يعرفون شيئا عن ثقافتنا، وتاريخنا، ولكن المسألة الحساسة فيما أريد أن أقوله أن ازدواجية المبتعث في تعامله الإنساني هذه نابعة من ذلك الإرث الذي يمتلئ بالعيوب، ويمتلئ بالزلات وإنه لمن الجيد أن تكون تجربة الابتعاث فرصة للتبرؤ من تلك الثقافات المشوّهة، فكل تلك الدول التي يعيش فيها المبتعثين تكتظ بالنجاحات، وتسير وفق نظام يحفظ للإنسان كرامته، ونفسه، دون أن يكون لديها تلك الأزمة في ثقافتها، ودون أن يعاني الفرد فيها من صراعات نفسية ووجدانية بين ما يؤمن به ذلك الشاب، وبين ما ينبغي فعله!
علوان السهيمي
Alwan_mohd@hotmail.com
http://twitter.com/#!/alwan_alsuhaymi
فما أعرفه جيدا بأن برنامج الابتعاث في كل سنة من سنواته يصبح أكثر زخما، فعدد الطلاب والطالبات في هذا البرنامج في كل سنة في ازدياد، وهذا يعني بأن المجتمع بدأ يتعامل مع الابتعاث على أنه شيء ضروري، وجزء مهم ينبغي على الشاب أن يتقاطع معه، حتى وإن كان ثمة نظرة بأن المبتعث معرّض للانحراف أكثر منه للنجاح في هذه الخطوة العلمية والعملية.
لكن ما يحيّر في هذه الخطوة الحضارية أن ثمة ازدواجية فظيعة لدى المبتعث السعودي، سواء كان شابا أو فتاة، ولأن التعميم منطقة توقعنا في الأخطاء دائما، فأنا حينما أقول ثمة ازدواجية لدى المبتعث السعودي فأعني أن هناك مجموعة هائلة من المبتعثين سواء كانوا ذكورا أو إناثا يمرون بأزمة غير عادية في تعاطيهم مع الحياة، ومع أنفسهم، والأهم تعاطيهم مع أبناء جلدتهم ووطنهم!
فأن تكون مبتعثا معناه أن تكون قادرا على التماهي مع الآخرين، والتعايش معهم، وتقبلهم، والوقوف أمام ثقافات الآخرين باحترام بعيدا عن الإرث الثقافي الذي لم يعلمنا كيف يمكن أن نتقبل الآخرين بكل ما يحملون؟ لكن أن تكون مبتعثا وتحمل كل هذه القناعات الرائعة، في احترام الآخر، والتماهي معه، والتعايش أيضا، وحين تلتقي مع أحد أبناء بلدك يظهر في داخلك ذلك الغول الضخم الذي ينثر ثقافة الإقصاء، وعدم التقبل، والتعصب القبلي، والنزعة الدينية غير المبررة وغير المنطقية، فأنت حتما تعاني من ازدواجية رهيبة، ومرَضِيّة في ذات الوقت.
فنحن ربما نجد طالبا سعوديا والطالبات جزء أيضا يتعايش مع طالب صيني، أو ياباني، أو برازيلي، يختلف عنه دينا، وثقافة، ووعيا، ومعيشة أيضا، وتجدهم في تعاملهم مع ذلك الطالب لا يتصادمان، ولا يتلاعنان، إنما علاقة صداقتهما تلك مبنيّة على الاحترام والحب والتقبّل، في الوقت الذي نجد ذات الشاب أو ذات الفتاة - حينما يجتمع بطلاب سعوديين ممن يشاركونه دينه، وثقافته، ووعيه أحيانا، وفي نفس معيشته نجده يتبرأ من كل تلك الصفات التي كان يتعامل مع البرازيلي أو الياباني، أو الصيني من خلالها، فتكون القبيلة، أو الصراخ، أو الشتم، أو عدم التقبل هي المسيطرة عليه في تلك اللحظة!
أعتقد بأن القانون الذي فرضته البلاد التي يعيش فيها المبتعثين كان له دور في تقبل المبتعث لغيره من الناس، أو لمن يختلف عنه دينا، ووعيا، وثقافة، وبالتالي هو لا يخشى إلا من سوط القانون، ولا يتعامل معهم من خلال وعي يتصاعد، أو من خلال معرفة حقيقية بالكائن الإنساني، وتقبل التعدد مهما كان، في الوقت الذي يجد نفسه أمام الطلاب السعوديين خارجا عن سلطة القانون تلك، فالطالب السعودي مهما اختلفت معه، ومهما شتمته فلن يتقدم بشكوى ضدك أبدا، وأنا لا أنكر سلطة القانون، فالإنسان يحتاج في البداية إلى قانون ليتربّى، ولا يحتاج إلى مواعظ دينية أو تربوية، فالقانون يربي أكثر من المواعظ، لكن أعتقد بأن الطالب السعودي الذي يخرج لخارج البلد ليدرس دراسات عليا هو لا يتعامل مع الناس هناك بعقلية (شريطي) السيارات، أو بعقلية (جندي) لا يحمل إلا شهادة الابتدائية، فالمفترض أن يكون للعلم الذي يبحث عنه هذا المبتعث دور في تكوين شخصية حيادية، لا تقبل التطرف، ولا تؤمن به، وتتخلى عن كل ما يحمله ذلك الغول من إرث ثقافي مشوّه.
فالمنطق يقول دائما بأننا لا نستطيع أن نتقبّل الآخرين، لكننا نستطيع أن نتقبّل من يشبهنا، لكن مع المبتعثين حصل عكس ذلك تماما، فأكاد أجزم بأن تعامل الطالب السعودي مع غيره من السعوديين يحمل كما هائلا من الريبة التي لا نجدها في تعامل الطالب السعودي مع غيره مما كانوا يحملون أديانا، أو جنسيات مختلفة، فثمة عقلية سائدة في التعامل الإنساني الذي يعيش بها الطلاب هناك، وهي ( السعوديين بيفضحونا لو رجعنا، لكن غيرهم بنسافر وبننساهم وينسوننا، ولا بيفضحونا فينا ).
إن الابتعاث ليس رحلة دراسية مدفوعة الثمن وكفى، إن الابتعاث حياة ينبغي على الطالب أن يستفيد منها في كل جوانب حياته، الاجتماعية، والنفسية، والاقتصادية، والعلمية، وأن يدرك بأن الفرد السعودي مثله مثل أي فرد من أفراد هذا العالم، وأن يتعامل معه من خلال وسطية مطروحة دائما كفكرة إسلامية، فالإنسان الحقيقي لا ينتظر عادة إلا من يحترمه، ومن يضعه في حيزه الحقيقي، ولا ينتظر أن يمجده أو يُقدّسه بلا مبرر!
في النهاية لا يعني أن يخرج المبتعث من هذا البلد لينسلخ من كل ما يؤمن به، لكن يجب أن يكون لديه الحس الواعي الذي يعرف كيف وماذا ينقل معه من إرثه الثقافي؟ وأن يحاول أن يمرر ما يجده نافعا لأولئك الذين لا يعرفون شيئا عن ثقافتنا، وتاريخنا، ولكن المسألة الحساسة فيما أريد أن أقوله أن ازدواجية المبتعث في تعامله الإنساني هذه نابعة من ذلك الإرث الذي يمتلئ بالعيوب، ويمتلئ بالزلات وإنه لمن الجيد أن تكون تجربة الابتعاث فرصة للتبرؤ من تلك الثقافات المشوّهة، فكل تلك الدول التي يعيش فيها المبتعثين تكتظ بالنجاحات، وتسير وفق نظام يحفظ للإنسان كرامته، ونفسه، دون أن يكون لديها تلك الأزمة في ثقافتها، ودون أن يعاني الفرد فيها من صراعات نفسية ووجدانية بين ما يؤمن به ذلك الشاب، وبين ما ينبغي فعله!
علوان السهيمي
Alwan_mohd@hotmail.com
http://twitter.com/#!/alwan_alsuhaymi