قال القاضي التنوخي: وجدت في بعض الكتب عن الأصمعي، قال: كنت بالبصرة، أطلب العلم، وأنا مقلّ، وكان على باب زقاقنا بقّال، إذا خرجت باكراً يقول لي: إلى أين...؟ فأقول: إلى فلان المحدّث.
وإذا عدت مساء، يقول لي: من أين...؟ فأقول: من عند فلان الأخباري، أو اللغوي.
فيقول: يا هذا، اقبل وصيتي، أنت شاب، فلا تضيع نفسك، واطلب معاشاً يعود عليك نفعه، وأعطني جميع ما عندك من الكتب، حتى أطرحها في الدّن، وأصب عليها من الماء للعشرة أربعة، وأنبذه، وأنظر ما يكون منه، والله لو طلبت مني بجميع كتبك جزرة بقل ما أعطيتك.
فيضيق صدري بمداومته هذا الكلام، حتى كنت أخرج من بيتي ليلاً، وأدخله ليلاً، وحالي، في خلال ذلك، تزداد ضيقاً، حتى أفضيت إلى بيع آجر أساسات داري، وبقيت لا أهتدي إلى نفقة يومي، وطال شعري، وأخلق ثوبي، واتسخ بدني.
قال الأصمعي: فأنا كذلك، متحيِّراً في أمري، إذ جاءني خادم للأمير محمد بن سليمان الهاشمي، فقال: أجب الأمير.
فقلت: ما يصنع الأمير برجل بلغ به الفقر إلى ما ترى...؟
فلما رأى سوء حالي، وقبح منظري، رجع فأخبر محمد بن سليمان بخبري، وعاد إليّ ومعه تخوت ثياب، ودرج فيه بخور، وكيس فيه ألف دينار، وقال: قد أمرني الأمير، أن أدخلك الحمام، وألبسك من هذه الثياب، وأدع باقيها عندك، وأطعمك من هذا الطعام، وإذا بخوان كبير فيه صنوف الأطعمة، وأبخّرك، لترجع إليك نفسك، ثم أحملك إليه، فسررت سروراً شديداً، ودعوت له، وعملت ما قال، ومضيت معه، حتى دخلت على محمد بن سليمان، فسلمت عليه، فقرّبني، ورفعني، ثم قال: يا عبد الملك، قد اخترتك لتأديب ابن أمير المؤمنين، فاعمل على الخروج إلى بابه، وانظر كيف تكون.
فشكرته، ودعوت له، وقلت: سمعاً وطاعة، سأخرج شيئاً من كتبي وأتوجه.
فقال: ودّعني، وكن على الطريق غداً.
فقبّلت يده وقمت، فأخذت ما احتجت إليه من كتبي، وجعلت باقيها في بيت، وسددت بابه، وأقعدت في الدار عجوزاً من أهلنا، تحفظها.
قال الأصمعي: وباكرني رسول الأمير محمد بن سليمان، وأخذني، وجاء بي إلى زلال قد اتخذ لي، وفيه جميع ما أحتاج إليه، وجلس معي، ينفق علي، حتى وصلت إلى بغداد، ودخلت على أمير المؤمنين الرشيد، فسلمت عليه، فرد علي السلام، وقال: أنت عبد الملك بن قريب الأصمعي.
قلت: نعم، أنا عبد أمير المؤمنين بن قريب الأصمعي.
قال: إعلم، أن ولد الرجل مهجة قلبه، وثمرة فؤاده، وهو ذا أسلم إليك ابني محمداً بأمانة الله، فلا تعلِّمه ما يفسد عليه دينه، فلعله أن يكون للمسلمين إماماً.
قلت: السمع والطاعة.
فأَخرجه إلي، وحُوِّلت معه إلى دار، قد أخليت لتأديبه، وأُخدِم فيها من أصناف الخدم، والفرش، وأجرى علي في كل شهر عشرة آلاف درهم، وأمر أن تخرج إلي في كل يوم مائدة، فلزمته، وكنت مع ذلك، أقضي حوائج الناس، وآخذ عليها الرغائب، وأنفذ جميع ما يجتمع لي، أولاً فأولاً، إلى البصرة، فأبني داري، وأشتري عقاراً، وضياعاً.
قال الأصمعي: فأقمت معه، حتى قرأ القرآن، وتفقَّه في الدين، وروى الشعر واللغة، وعَلِم أيام الناس وأخبارهم، واستعرضه الرشيد، فأعجب به وقال: يا عبد الملك، أريد أن يصلي بالناس، في يوم الجمعة، فاختر له خطبة، فحفِّظه إياها.
فحفظته عشراً، وخرج فصلى بالناس، وأنا معه، فأُعجب الرشيد به، وأخذه نثار الدنانير والدراهم من الخاصة والعامة، وأتتني الجوائز والصلات من كل ناحية، فجمعت مالاً عظيماً، ثم استدعاني الرشيد، فقال: يا عبدالملك، قد أحسنت الخدمة، فتمنَّ.
قلت: ما عسى أن أتمنى، وقد حِزت أمانيَّ.
فأمر لي بمال عظيم، وكسوة كثيرة، وطيب فاخر، وعبيد، وإماء، وظهر، وفرش، وآلة، فقلت: إن رأى أمير المؤمنين، أن يأذن لي في الإلمام بالبصرة والكتاب إلى عامله بها، أن يطالب الخاصة والعامة، بالسلام علي ثلاثة أيام، وإكرامي بعد ذلك. فكتب إليه بما أردت.
قال الأصمعي: وانحدرت إلى البصرة، وداري قد عمرت، وضياعي قد كثرت، ونعمتي قد فشت، فما تأخر عني أحد، فلما كان في اليوم الثالث، تأملت أصاغر من جاءني، فإذا البقّال، وعليه عمامة وسخة، ورداء لطيف، وجبة قصيرة، وقميص طويل، وفي رجله جرموقان، وهو بلا سراويل، فقال: كيف أنت يا عبد الملك...؟
فاستضحكت من حماقته، وخطابه لي بما كان يخاطبني به الرشيد، وقلت: بخير، وقد قبلت وصيتك، وجمعت ما عندي من الكتب، وطرحتها في الدّن، كما أمرت، وصببت عليها من الماء للعشرة أربعة، فخرج ما ترى.
ثم أحسنت إليه بعد ذلك، وجعلته وكيلي.
وإذا عدت مساء، يقول لي: من أين...؟ فأقول: من عند فلان الأخباري، أو اللغوي.
فيقول: يا هذا، اقبل وصيتي، أنت شاب، فلا تضيع نفسك، واطلب معاشاً يعود عليك نفعه، وأعطني جميع ما عندك من الكتب، حتى أطرحها في الدّن، وأصب عليها من الماء للعشرة أربعة، وأنبذه، وأنظر ما يكون منه، والله لو طلبت مني بجميع كتبك جزرة بقل ما أعطيتك.
فيضيق صدري بمداومته هذا الكلام، حتى كنت أخرج من بيتي ليلاً، وأدخله ليلاً، وحالي، في خلال ذلك، تزداد ضيقاً، حتى أفضيت إلى بيع آجر أساسات داري، وبقيت لا أهتدي إلى نفقة يومي، وطال شعري، وأخلق ثوبي، واتسخ بدني.
قال الأصمعي: فأنا كذلك، متحيِّراً في أمري، إذ جاءني خادم للأمير محمد بن سليمان الهاشمي، فقال: أجب الأمير.
فقلت: ما يصنع الأمير برجل بلغ به الفقر إلى ما ترى...؟
فلما رأى سوء حالي، وقبح منظري، رجع فأخبر محمد بن سليمان بخبري، وعاد إليّ ومعه تخوت ثياب، ودرج فيه بخور، وكيس فيه ألف دينار، وقال: قد أمرني الأمير، أن أدخلك الحمام، وألبسك من هذه الثياب، وأدع باقيها عندك، وأطعمك من هذا الطعام، وإذا بخوان كبير فيه صنوف الأطعمة، وأبخّرك، لترجع إليك نفسك، ثم أحملك إليه، فسررت سروراً شديداً، ودعوت له، وعملت ما قال، ومضيت معه، حتى دخلت على محمد بن سليمان، فسلمت عليه، فقرّبني، ورفعني، ثم قال: يا عبد الملك، قد اخترتك لتأديب ابن أمير المؤمنين، فاعمل على الخروج إلى بابه، وانظر كيف تكون.
فشكرته، ودعوت له، وقلت: سمعاً وطاعة، سأخرج شيئاً من كتبي وأتوجه.
فقال: ودّعني، وكن على الطريق غداً.
فقبّلت يده وقمت، فأخذت ما احتجت إليه من كتبي، وجعلت باقيها في بيت، وسددت بابه، وأقعدت في الدار عجوزاً من أهلنا، تحفظها.
قال الأصمعي: وباكرني رسول الأمير محمد بن سليمان، وأخذني، وجاء بي إلى زلال قد اتخذ لي، وفيه جميع ما أحتاج إليه، وجلس معي، ينفق علي، حتى وصلت إلى بغداد، ودخلت على أمير المؤمنين الرشيد، فسلمت عليه، فرد علي السلام، وقال: أنت عبد الملك بن قريب الأصمعي.
قلت: نعم، أنا عبد أمير المؤمنين بن قريب الأصمعي.
قال: إعلم، أن ولد الرجل مهجة قلبه، وثمرة فؤاده، وهو ذا أسلم إليك ابني محمداً بأمانة الله، فلا تعلِّمه ما يفسد عليه دينه، فلعله أن يكون للمسلمين إماماً.
قلت: السمع والطاعة.
فأَخرجه إلي، وحُوِّلت معه إلى دار، قد أخليت لتأديبه، وأُخدِم فيها من أصناف الخدم، والفرش، وأجرى علي في كل شهر عشرة آلاف درهم، وأمر أن تخرج إلي في كل يوم مائدة، فلزمته، وكنت مع ذلك، أقضي حوائج الناس، وآخذ عليها الرغائب، وأنفذ جميع ما يجتمع لي، أولاً فأولاً، إلى البصرة، فأبني داري، وأشتري عقاراً، وضياعاً.
قال الأصمعي: فأقمت معه، حتى قرأ القرآن، وتفقَّه في الدين، وروى الشعر واللغة، وعَلِم أيام الناس وأخبارهم، واستعرضه الرشيد، فأعجب به وقال: يا عبد الملك، أريد أن يصلي بالناس، في يوم الجمعة، فاختر له خطبة، فحفِّظه إياها.
فحفظته عشراً، وخرج فصلى بالناس، وأنا معه، فأُعجب الرشيد به، وأخذه نثار الدنانير والدراهم من الخاصة والعامة، وأتتني الجوائز والصلات من كل ناحية، فجمعت مالاً عظيماً، ثم استدعاني الرشيد، فقال: يا عبدالملك، قد أحسنت الخدمة، فتمنَّ.
قلت: ما عسى أن أتمنى، وقد حِزت أمانيَّ.
فأمر لي بمال عظيم، وكسوة كثيرة، وطيب فاخر، وعبيد، وإماء، وظهر، وفرش، وآلة، فقلت: إن رأى أمير المؤمنين، أن يأذن لي في الإلمام بالبصرة والكتاب إلى عامله بها، أن يطالب الخاصة والعامة، بالسلام علي ثلاثة أيام، وإكرامي بعد ذلك. فكتب إليه بما أردت.
قال الأصمعي: وانحدرت إلى البصرة، وداري قد عمرت، وضياعي قد كثرت، ونعمتي قد فشت، فما تأخر عني أحد، فلما كان في اليوم الثالث، تأملت أصاغر من جاءني، فإذا البقّال، وعليه عمامة وسخة، ورداء لطيف، وجبة قصيرة، وقميص طويل، وفي رجله جرموقان، وهو بلا سراويل، فقال: كيف أنت يا عبد الملك...؟
فاستضحكت من حماقته، وخطابه لي بما كان يخاطبني به الرشيد، وقلت: بخير، وقد قبلت وصيتك، وجمعت ما عندي من الكتب، وطرحتها في الدّن، كما أمرت، وصببت عليها من الماء للعشرة أربعة، فخرج ما ترى.
ثم أحسنت إليه بعد ذلك، وجعلته وكيلي.