هو صراع نحو البقاء ، ومن أجله يتكبد الشخص ألوان العناء ، ويخوض في سبيله لقاء تلو لقاء ، ويقدم الكثير من التنازلات وقد يشعر نحوها بالاستياء ، ويتعرض للعديد من المواقف والتي يُفاجأ بها بِتَسَلُّطٍ أو تَمَرُّدٍ أو غباء ، وقد يفرض عليه بعضها التعامل مع الجهلاء ، وقد تجبره على التنازل عن المهم من الأشياء ، دون أن يحق له إظهار تَذَمُرٍّ أو اشتكاء ، وكأنه يمر بنوع من الابتلاء ، فلا قنوط ولا خضوع ولا ازدراء ، فإن رضي فهي البداية بلا انتهاء ، فمن صراع لصراع ، و شقاء يتلو شقاء ، ونحن بين ذراعها نرجو البقاء ، فكيف من يرجو الزيادة بارتقاء ، ومن سيطمع في رباها بالغناء ، فهو السبيل إلى السعادة والهناء ، وليس ذاك بحاصل إلا ببذل في العطاء ، أو بنومٍ في العراء ، أو بسيلٍ من دماء ، في تقلّب واكتواء ، واحتياج لاكتفاء ، للتغلب عالشقاء ، حتى استعاد بها الضياء ، وذاق طعم سعادة كظامئ نال ارتواء ، أو جائع وجد الغذاء ، أو يتيما طاويا وسط الفناء ، جاءه ضوء تسلط من سماء ، فكان فيه خلاصه وبه احتواء ، في البرد يمنحه الكساء ، وفي المواجع كالدواء ، فهو الربيع بعمره ، وهو الدفى وقت الشتاء ، ومن بقايا ضوءه وجد العزيمة للبقاء ، وهو المراد لكل شخص عاش في الدنيا يبيع بلا شراء ، أو يضيع بلا ضياء ، أو يظل بلا ثراء ، قابعا وسط الكهوف ، يخيفه صوت العواء ، تَحُفُه فيه الأفاعي والجراء ، فليس كل كهوفنا تحمي طريدا هاربا من حيث جاء ، مثلما سيق النبي لكهفه فحماه غارٌ في حراء ، فهذا أمر نادرٌ خص الإله نبيه وله اصطفاء ، والغاية العظمى لذلك كالجميع هي البقاء ، وإن رآيناها بعين نقدٍ ، فهي قمة في الغباء ، فكيف نرجوها لنبقى وهي دار للفناء ، ولا يظل بها قويا أو ضعيفا حتى المغمس بالثراء ، فكيف تعطينا خلودا وهي فاقدة الرجاء ، وكل من فيها سيرحل حتى وإن طال البقاء ، والبقاء بها مؤقت والأصل رحلة لانقضاء ... .
فمن سيبقى رحله ، ومن يضيع إذا رحل ، ومن سيلقى حتفه ، ومن يحارب كي يصل ، ومن سيرقى كتفه ومن بخطوة قد فصل ، ومن سينكر سيفه ومن يجاهر إن قتل ، ومن سيهزم خوفه ومن يُرَوِّعُه الزلل ، ومن ستشرق شمسه ومن بظلمته أفل ، ومن سيقوى عوده ومن يخور إذا ذبل ، ومن سيهبط واديا ومن سيغريه الجبل ، ومن سيخرج خائبا ومن بسطوته دخل ، ومن سيرمي حمله ومن يناضل إن حمل ، ومن سيطفئ ضوؤه ومن بِهِمَّتِه اشتعل ، ومن سَيَسْرِقُ قُوتَه ومن بِقُوّته اشتغل ، ومن سيشغل منصبا ومن تخاذل فاعتزل ، ومن سيمشي حافيا ومن بقدرته انتعل ، ومن سيرسل نائبا ومن يَهِمُّ إذا فعل ، ومن سيبقى راغبا ومن تمكنه الملل ، ومن سيلتقط الجواب لمن سأل ، وبمن ستمتلئ الجراب ، ومن ستبكيه المقل ، ومن سيفتح كل باب إن كان بالوجه انقفل ، ومن سيقبل بالخراب ولا تحركه العِلل ، ومن سينهض للحِراب مجاهدا حتى امتثل ، فمن سيصلح نفسه عند الخلل ، ومن سيرضى بالعيوب فلا أمل ... .
هي المواقف التي تغربل أطرافها ، فتسقط الغث ، ولا تبقى إلا أطيافها ، ثم تعود لهم لتمتحنهم ، فتجمع وتطرح ، وتمنع وتسمح ، وتردع وتمنح ، وتفزع وتمسح ، وتلهو وتمرح ، وتكوي وتجرح ، وتصفع وتلفح ...
وحسب تعاملهم مع مواقفها ، تقرر من سيكون أهلا للبقاء ، ومن سيغادرها ولا يستحق حتى البكاء ، ولن تعيد له النداء ، ولن تبرر له الأخطاء ... .
نعم هو التعامل ، حيث أن ( الدين المعاملة ) ، والمعاملة تكون بالفضل ، لا بالمثل ، وهذا هو الأصل ، فإن كنت ستجيب قولا بقول ، فذاك هو الجهل ، وإن كنت سترد فعلا بفعل ، فكل ذلك سهل ، ولست للفضل أهل ، فالبقاء للأنقى لا للأقوى ، والنداء موجه للأرقى لا للأردى ، والفضل يكون للأعلى لا للأدنى ، والأجر يضاعف للأغنى لا للأغبى ، غني الخلق أعني ، لا غني المال ، فهو أصل الرزق إن تسأل عن الحال ... .
فمن أراد البقاء فليَتَحَمَّل ، ومن طمع بالارتقاء فليَتَجَمَّل ، وإن تعرض للأذى عليه قبل الرد أن يَتَمَهَّل ، ولا يثور بحمقه ولا يَتَعَجَّل ، ولا يسمح لشيطانه أن يَتَدَخَّل ، ولا لنفسه أن تَتَذَلَّل ، ولن يهنأ الحال وإن مال لن يَتَعَدَّل ، إلا إن كنا بأخلاقنا نتعامل لا بأخلاقهم ، ونرد عليهم بألفاظنا لا بألفاظهم ، ونفرض أسلوبنا لا أسلوبهم ، وللتأثير علينا لا نَتَقَبَّل ، فنحن نمثل أنفسنا ولسنا بهم نَتَمَثَّل ، وهل بعد هذا بحمقهم نَتَعَلَّل ، وبعقلهم نَتَأَمَّل ، فإن كنا كذلك فنحن لن نَتَبَدَّل ... .
فالمرء على تصرفاته يُسأل ، ولوزره يحمل ، ولطبعه يَنُْقل ، " ولا تزر وازرة وزر أخرى " إن كنا بوزرهم نَحْفُل ، وليس هذا الأمر يُعْقَل ، ولسنا بإصلاحهم نَتَكَفَّل ، فطب نفسا أيها العبد وعن الأدناس فارحل ، وعليك نفسك وثق بأنك إن رعيتها فأنت بلا شك أفضل ، فإن بقيت فأنت الأنقى وليس بالضرورة أن تكون الأقوى ، وهذا بالاعتبار أولى ، فإن فزت وبقيت فما تلك إلا جولة ، " والآخرة خير وأبقى " ، فاعمل لها أيها العبد وارقى ، فكل خير سُقْته يوما ستلقى ، وكُلُ ساقٍ بما سقى يوما سَيُسقى ، ومن عصى أمر الإله في الدنيا سيشقى ، ويوم العرض في النيران يُلْقى ، ولن يفوز بجنة إلا من تكبّد بالمشقة ، وجاء مثل صفو الماء بل والله أنقى ، وكل داء طِبُّه في القلب طيباً سوف يُرقى ، في الجنان بطيبه يوما سيرقى ، وبه يلقى جزاء الخير عند الله أوفى ، فهو عند الله أبقى ، وهو أنقى ، وهو بالتأكيد أرقى ، فاسعى لها وبكل جهدك ، فهي مع ساعيها تسعى ، ليس للساعين تنسى ، " أن ليس للإنسان إلا ما سعى ، وأن سعيه سوف يُرى ، ثم يجزاه الجزاء الأوفى ، وأن إلى ربك المنتهى ، وأنه هو أضحك وأبكى " ، فهو وعد أنك أفلحت إن فيها تَزَكى ، والله يعلم الجهر وما خفى ، " ولسوف يعطيك ربك فترضى " ، انتظر وأنت حتما سترى ... .