لا شيء هنا غير صدى ذكرى!
وبعد:
كبرنا، وكبرت المدينة، ومحت مبانيها الشّاهقة وشوارعها الفسيحة أثار أقدامنا الحافية والمنتعلة. وفي كل ركن منها أي المدينة عبق ذكرى.
وحين كانت المدينة صغيرة، ولم تستخدم بعد علب المكياج - كنت أشعر بأني أسعد مخلوق يحثّ الخطى، وتثير قدماه العجاج في دروبها، مع أن الهيئة لا توحي بشيء من ذلك. ومن فرط سعادتي كنت أتمنى أن أحصل على تلسكوب من عند ذلك التاجر الحضرمي لكي أرى أبعاد الكون، وهذا ما لم يتحقق إلى يومي هذا!
اليوم، أنا لا أستطيع أن أرى أبعاد المدينة، ولم تعد قدماي (الدفع الثنائي )، ولا حتى عجلات (الدفع الرباعي ) تسعفني في مسح طرقاتها الطويلة.
كانت المدينة تشبهني في البراءة والعفوية، وكأني بها تهتز فرحا وأنا أقترب من قلبها النابض بالوداد والحنيّة، فأشعر براحة نفسية وأنا أرى الناس في سوقها يموج بعضهم في بعض. حيث بدأنا نرى أجناسا لم نرهم من قبل كالكوريين الذين تشابهوا علينا!
لم تكن المدينة تتمعّر من الفوضى الخلّاقة، ولم يكن في دستورها ما يمنع أن يخرق " أبو عيد " نفقا في الجدار الفاصل بينه وبين جاره ليدلف منه متى شاء اختصارا للمسافة. ربما كانت العجوز (...) أكثر رشاقة من "أبو عيد " وهي تعاند الجاذبية الأرضية، فتتحذلف من فوق الجدار إلى جارتها .
كأن المدينة في غفلة المخططين الاستراتيجيين تقول لساكنيها: اعملوا ما شئتم.! وكأني بها تنادي في السائرين والعابرين والمسترقين السمع من بعيد: هلمّوا إليّ!
كم هي رائعة حين تقبلنا على أي شكل، وكأني بها تضحك وتقهقه لبراءتنا وسذاجتنا وعفويتنا وهي تنصت لسواليفنا ليلا قبل أن تقول لنا "تصبحون على خير"، فتنام، وننام نحن.
وفي ليلها الطويل الصامت أحلام طوال عراض نعيد تكرار عرض سيناريوهاتها ساعة تشرق الشمس على مناماتنا المتناثرة في الأحواش. تلك المنامات التي كنا نطويها ونطوي معها أحلامنا.
قد تتغير المعالم، لكن تبقى الذكريات حيّة في الوجدان. وأحيانا أشعر بأن المكان كائن حيّ، له عين وأذن ولسان، وكأني به حين أمر بجواره أو أقف عنده يقول لي: تخبر يا فلان!. تلك الأماكن التي أضحكتني في زمن الزهو، أراها اليوم تبكيني!
كانت تلك صفحة أولى من صفحات " مدينة الأحلام " أكتبها لكم من الطرف الأغر " دمج "
والسلام