أهلا بكم من جديد
وبعد:
اشتقت لسماع صوت الراديو الذي هجرته منذ سنين، فانقطعت صلتي بالبي بي سي، وكل أصوات العرب العابرة للقارات. وكان آخر العهد براديو "روسي" اشتريته سنة " أم المعارك " لمتابعة أخبار العنتريّة العربيّة، في وقت لم يهبط فيه " الطّشت " الفضائيّ على سطح منزلي.
أدرت الدليل لعلّي أجد في متاهات العرب شيئا يستحق الاستماع، كتلك البرامج والأصوات الجميلة الفصيحة التي كنّا نصغي إليها في زمن مضى، وما زلنا نتذكرها.
ومن خلال القرقعة والفرقعة الملوّثة للأثير، سمعت أحد مقدمي البرامج يقول لمستمعيه: اللّي مو عاجبه ضحكنا وفرفشتنا، يصك الراديو!.حلّ تستحقه أيضا تلفزيونات وصحف العرب.
طافت بي الذكرى إلى زمن الراديو، وإلى غرفة "مطلق" التي لم تعرف البلاط، فتكاد تضيق بجموع المستمعين الذين لم يك يعنيهم الغناء والموسيقى . وحجارة الراديو (البطاريات) كما يسميها "مطلق" لا تتحمل آهات كوكب الشرق ونوائح الأطرش، فيدّخرها لنشرة الأخبار، وأحيانا فقط - لموجز الأنباء، حين لا تكون هناك مصيبة تهز طبلتي أذنيه اللّتين تحوّلتا إلى محطة استقبال لكل مصائب الدنيا.
كان "مطلق " في سابق عهده بدويا موغلا في البداوة. وعهدي به إذا سأله سائل: وش العلوم؟ فإنه يمسد لحيته المشيبة، ويلتفت ذات اليمين وذات الشمال، ويردّ بكل برود: ستر الله يدوم!. غير أن مطلق - بعد أن حلّت بداره الراديو- جعل من نفسه وكالة أنباء، ووكيلا للأمين العام للأمم المتحدة في القلق على مصير البشريّة. وهو يصغي إلى أخبار السلفادور والهندوراس ونيكاراجوا وناميبيا وفيتنام وكمبوديا وكولومبيا وأنقولا والإكوادور...!
لقد باع النّوق واشترى من ثمنها " رغّاية ". والدنيا - في نظره - على قرن ثور!. وقد يتجاهل الثور الهائج لعناته حين تختلط أصوات العالم لحظة التشويش وهو يضبط "الموجة" منبطحا على بطنه، ولحيته تلامس الأرض. فأصبحت الدنيا على صلعة "مطلق" الذي لم يكتشف بعد أن الدنيا على قرون قطيع من الثيران، تجعل الأمين العام للأمم المتحدة يشعر - مقابل راتب شهري- بمزيد من القلق، ويدعو الثيران إلى ضبط النفس.
كانت راديو "مطلق " لا تصلها أيد العابثين أمثالي، وقد ألبسها كساء منسوجا من الصوف الملوّن، فالراديو في ذلك الزمن تستحق الدلال. وكان يضعها على النافذة تجنبا للتشويش، وصدقة منه على مسامع الجيران مما يفيء عليه محسنو وكالات الأنباء.
كان صوت الراديو يجعل الرّبع يطمئنون أن " مطلق " ما زال على قيد الحياة! ذلك حين هجره المستمعون، بعد أن جلب كل واحد منهم له همّ (راديو ). لكن، وذات يوم، صمتت راديو" مطلق "، فقالت " مغيضة " وقد رابها صمت راديو مطلق: يا ناس " مطلق " ماله حسّ!
لقد مات "مطلق " في غرفته وحيدا، ولم تمت معه مصائب الدنيا. وإذا كان عاش حياته خال من هموم العيلة، إلا أنه عاش هموم العالم من حوله. فقد كان يرحمه الله - رجلا لطيفا رقيق القلب. وكان من عادته أن يضع بعض الحلوى في جيبه ، فإذا صادف طفلا أعطاه حبّة، فأحبّه الأطفال. ومن حسن حظه أنه مات قبل أن تصبح المصائب بالصوت والصورة والنقل الحي المباشر لمجازر الدكتاتورية ومدّعي الوطنيّة، حيث تختلط المأساة بالملهاة.
مات " مطلق " في زمن كان " الشّر برا وبعيد " وتوسّد التراب في حفرة حيث لا يسمع ولا يرى ما يحلّ في ديار العرب، وترك من بعده أمة تتلذ بالمأساة، وإعلام يرغي صباح مساء لتغييب الوعي وتشويه صورة الحق وتزيين الباطل. وإذا كانت تلك هي الحال في زمن التهريج الإعلامي الذي أصبح تجارة واسترزاقا على حساب الفكر والأخلاق، فلا بد وأن أستجيب لنصيحة المذيع " اللّي مو عاجبه ضحكنا وفرفشتنا، يصك الراديو ". وقد يكون في الإنترنت من الخيار ما يغني عن فقّوس العرب.
والسلام
وبعد:
اشتقت لسماع صوت الراديو الذي هجرته منذ سنين، فانقطعت صلتي بالبي بي سي، وكل أصوات العرب العابرة للقارات. وكان آخر العهد براديو "روسي" اشتريته سنة " أم المعارك " لمتابعة أخبار العنتريّة العربيّة، في وقت لم يهبط فيه " الطّشت " الفضائيّ على سطح منزلي.
أدرت الدليل لعلّي أجد في متاهات العرب شيئا يستحق الاستماع، كتلك البرامج والأصوات الجميلة الفصيحة التي كنّا نصغي إليها في زمن مضى، وما زلنا نتذكرها.
ومن خلال القرقعة والفرقعة الملوّثة للأثير، سمعت أحد مقدمي البرامج يقول لمستمعيه: اللّي مو عاجبه ضحكنا وفرفشتنا، يصك الراديو!.حلّ تستحقه أيضا تلفزيونات وصحف العرب.
طافت بي الذكرى إلى زمن الراديو، وإلى غرفة "مطلق" التي لم تعرف البلاط، فتكاد تضيق بجموع المستمعين الذين لم يك يعنيهم الغناء والموسيقى . وحجارة الراديو (البطاريات) كما يسميها "مطلق" لا تتحمل آهات كوكب الشرق ونوائح الأطرش، فيدّخرها لنشرة الأخبار، وأحيانا فقط - لموجز الأنباء، حين لا تكون هناك مصيبة تهز طبلتي أذنيه اللّتين تحوّلتا إلى محطة استقبال لكل مصائب الدنيا.
كان "مطلق " في سابق عهده بدويا موغلا في البداوة. وعهدي به إذا سأله سائل: وش العلوم؟ فإنه يمسد لحيته المشيبة، ويلتفت ذات اليمين وذات الشمال، ويردّ بكل برود: ستر الله يدوم!. غير أن مطلق - بعد أن حلّت بداره الراديو- جعل من نفسه وكالة أنباء، ووكيلا للأمين العام للأمم المتحدة في القلق على مصير البشريّة. وهو يصغي إلى أخبار السلفادور والهندوراس ونيكاراجوا وناميبيا وفيتنام وكمبوديا وكولومبيا وأنقولا والإكوادور...!
لقد باع النّوق واشترى من ثمنها " رغّاية ". والدنيا - في نظره - على قرن ثور!. وقد يتجاهل الثور الهائج لعناته حين تختلط أصوات العالم لحظة التشويش وهو يضبط "الموجة" منبطحا على بطنه، ولحيته تلامس الأرض. فأصبحت الدنيا على صلعة "مطلق" الذي لم يكتشف بعد أن الدنيا على قرون قطيع من الثيران، تجعل الأمين العام للأمم المتحدة يشعر - مقابل راتب شهري- بمزيد من القلق، ويدعو الثيران إلى ضبط النفس.
كانت راديو "مطلق " لا تصلها أيد العابثين أمثالي، وقد ألبسها كساء منسوجا من الصوف الملوّن، فالراديو في ذلك الزمن تستحق الدلال. وكان يضعها على النافذة تجنبا للتشويش، وصدقة منه على مسامع الجيران مما يفيء عليه محسنو وكالات الأنباء.
كان صوت الراديو يجعل الرّبع يطمئنون أن " مطلق " ما زال على قيد الحياة! ذلك حين هجره المستمعون، بعد أن جلب كل واحد منهم له همّ (راديو ). لكن، وذات يوم، صمتت راديو" مطلق "، فقالت " مغيضة " وقد رابها صمت راديو مطلق: يا ناس " مطلق " ماله حسّ!
لقد مات "مطلق " في غرفته وحيدا، ولم تمت معه مصائب الدنيا. وإذا كان عاش حياته خال من هموم العيلة، إلا أنه عاش هموم العالم من حوله. فقد كان يرحمه الله - رجلا لطيفا رقيق القلب. وكان من عادته أن يضع بعض الحلوى في جيبه ، فإذا صادف طفلا أعطاه حبّة، فأحبّه الأطفال. ومن حسن حظه أنه مات قبل أن تصبح المصائب بالصوت والصورة والنقل الحي المباشر لمجازر الدكتاتورية ومدّعي الوطنيّة، حيث تختلط المأساة بالملهاة.
مات " مطلق " في زمن كان " الشّر برا وبعيد " وتوسّد التراب في حفرة حيث لا يسمع ولا يرى ما يحلّ في ديار العرب، وترك من بعده أمة تتلذ بالمأساة، وإعلام يرغي صباح مساء لتغييب الوعي وتشويه صورة الحق وتزيين الباطل. وإذا كانت تلك هي الحال في زمن التهريج الإعلامي الذي أصبح تجارة واسترزاقا على حساب الفكر والأخلاق، فلا بد وأن أستجيب لنصيحة المذيع " اللّي مو عاجبه ضحكنا وفرفشتنا، يصك الراديو ". وقد يكون في الإنترنت من الخيار ما يغني عن فقّوس العرب.
والسلام