أهلا بكم من جديد
أما قبل:
الحقيقة أن أحاديث الناس هي زادي في الكتابة، وكم أكون سعيدا حين أجد وجبة لمقال، لكن يجب عليّ في كل مرة أن أستأذن أصحابها، ومن السهل أن أنقل سالفة وأسردها في مجلس، في حين يصعب كتابتها بكل تفاصيلها في مقال.
وفي عصر تويتر وإخوته يتعاظم الحذر، فكل كلمة عليها ألف رقيب، وهذا ما دفعني لوقف حسابي في تويتر خوفا من زلة لسان، أو تأويل في غير محله.
هناك من يعتقد أنها مجرد سوالف عابرة، وهذا سهل جدا، لكني آثرت أن تكون ذات مغزى ورسائل يدركها بعض القراء.
وكنت في البداية سعيدا، وأن الذاكرة تتسع للعديد من المقالات، لكني أدركت أن ذلك سيوقعني في حرج مع الناس حين أتطرق لبعض القضايا والأحداث والمواقف بتفاصيلها، وأن الناس اليوم أكثر حساسية، وقد يحدث خلاف وخصام بسبب مقالة. ولهذا السبب تبدو الكتابة باهتة جدا.
أدركت تلك الحساسية حين استأذنت أحدهم في نشر ما جاء على لسانه في إحدى التعليلات فرفض، معللا ذلك بما سبق فزادت قناعتي حين ذكرت موقفا طريفا لا عيب فيه، فعاتبني صاحبه بعدها عتابا شديدا.
وبعد:
كان صوت عربنا - في حلّهم وترحالهم- يطرب الأسماع، وأجمل صوت هو صوت الأمّهات.
وميزة عربنا أن متاعهم قليل، يستخفونه يوم ظعنهم، وكان ذلك المتاع بالنسبة لنا ثروة عظيمة، وكنا سعداء بتلك الثروة!
تلك المواعين التي يكسوها السواد وتلك اللحف والفرش والوسائد المتواضعة كانت جميلة. ربما كانت برذعة الحمار غطاء وثيرا لأحدنا في ليلة من ليالي الشتاء الباردة من أجل أن يلتحف ضيف أو عابر سبيل.ولا يعلم الضيف - المحتمل قدومه في أي وقت- أن هناك إمرأة تحسب حسابه وتمنع طفلها أن يأخذ مزيد لحسة من السّمن، وتحاول أن تقنعه أنها تدخره للضيوف! فيصرخ الطفل محتجا: كل شيء للضيوف؟!.
وحين يأتي الضيف أو يحط نزل جديد يتعالى صوت عربنا، فيشتد الغلاط بين الرجال، ويتحول المكان بعدها إلى مهرجان. وعلى صوت دقات ودندنة النجر الذي يطرب الأسماع دوما تبدأ فعاليات الاحتفال والاحتفاء.
الذبيحة معلقة على الراجوحة ذات الثلاث شعب، والنار موقدة، فيقطع من يتولى الجزارة شرائح من اللحم ويرمي بها في النار، فينبعث الدخان ورائحة الكتار في فضاء عربنا، ويأتي الاطفال وهم يومئذ قليلون، فيتحلقون حول النار في انتظار " الشوايا" فلا يبرحون حتى تتلون أشداقهم بالدهن والسواد!.
وفي كل ليلة يجتمع الرجال في بيت كبير عربنا، تتعالى أصواتهم، ولا يصمتون إلا لسماع نشرة الأخبار حسب توقيت ساعة كبير عربنا التي تحتاج إلى " عشاء "، وتنتهي النشرة، وجرة على الربابة تجعل كبير عربنا ينسى التعليق على أهم الأنباء. ولا يوجد في مضارب عربنا من التكنولوجيا غير ذلك المذياع وتلك الساعة.ولم يتوقع أحد أن يحدث ذلك الصندوق العجيب(الراديو ) تغييرا في مجتمع عربنا، إلا أن "أم عطية" تنبأت بذلك، وكأنها تنظر للغيب من طرف خفي!
وكانت العجوز" أم عطية " تغشى مجلس الرجال، وبصفتها شاهدة على العصر،لا تقبل تزوير التاريخ، ولو عن غير قصد، حتى وإن كان المتحدث " كبير عربنا ".
وفي أقصى عربنا كان هناك بيت حطّ حديثا، تخفق فيه الريح، وكأنها تصرّ أن تمزّق ما بقي من "شقاقه " البالية. فكان أن هبّت نساء عربنا"عونة" لترميمه قبل حلول الشتاء.
وكان " عودة " سعيدا وهو يرى العجوز " أم عطية " وهي تضع اللمسات الأخيرة وتعلق بعض الشراشب الملونة على واسط ومقدم البيت، لتمنح جوا من البهجة على رجل بلغ من العمر عتيا، وامرأة بلغت سن اليأس في أن تنجب غير مستر" عودة "، هكذا كان يحلو له أن يقول عن نفسه ساخرا، وقد إقتبس ذلك من راديو عربنا.
لم تكن تلك المبادرة الطيبة من فريق عربنا هي الوحيدة التي جعلت "عودة" سعيدا، بل هناك مبادرة أخرى جعلته أكثر سعادة وهو يجلس على تلة غربي عربنا يعزف على مزماره، ليملأ السوح العريض طربا وفرحا بشويهات "منائح " يثغين على وقع موسيقاه. لقد "نقز" عودة كما يحلو له أن يقول خط الفقر المدقع، ليملأ بطنه" غبيبة"، فزادت دنياه حلاوة بطعم رغيف محشو بالسّمن والسّكر.
والسلام
يتبع، أن شاء الله تعالى