أهلا بكم، وبكم يتجدد اللقاء
وبعد:
وفي إحدى الليالي من ليالي عربنا الربيعية، كانت هناك تعليلة في بيت " أم عطيّة"، والعشاء عصيدة مشبعة بالسمن وبكيلة، وامرأة تحكي قصتها، فقالت:
في إحدى السنين ربّعنا ناحية الكرك،وذات ليلة حدث خلاف بين أبي وأمي، فطلّقها، فقررت اللّحاق بأهلها في " الحرّة "، وكنت يومها طفلة صغيرة، ولم يمانع والدي في مرافقتها.
ومع طلوع الفجر، كان البعير يرغي بأحماله، ومازال في عقاله، وكنت أشاركه الرغاء صياحا، وعمي يرجو أمي أن لا تفارق، فقام البعير يعتب، وودت أنه شرد من ساعته، لكن أمي ممسكة بزمامه، وكأنها تصر أن لا تطلع عليها الشمس في ذلك المنزل، فقد حل الفراق بلا وداع، ومشينا في طريق مقفر ليالي وأياما، يرافقنا أخي من أبي حتى وصلنا غايتنا.
وبعد حين تزوجت أمي برجل أنجبت منه ولدين، ثم مات، فضاقت بنا الحال، فهبطنا إلى تبوك ولا أدري لماذا؟!.غير أنه كان في موسم التمر، فمكثنا أياما، ثم قفلنا راجعين إلى الحرة، فغربت شمس ذلك اليوم فتنحينا للمبيت، وكان أخي الأصغر مريضا، وبينما كانت أمي تعد لنا بعض الطعام رابها صوت أخي، ففزعت إليه، ولا أدري عن معنى تلك الشهقة إلا حين لفته أمي في لفافته ووارته التراب.فكان الحزن في تلك الليلة الظلماء عشاء نحتسيه بالدموع، لكن أمي إعتادت مشاهد الحزن والموت.
ومع طلوع الفجر، وقبل المسير، ذهبت ألقي نظرة الوداع الأخير على قبر أخي ، فوجدته وقد نبشه الوحش، ولم يبق من جسده غير قطعة من يده، فدفنتها، وجلست أبكي، وأمي هناك تنادي، فكفكت دموعي، وعدت ولم أخبرها بما رأيت، وتابعنا المسير إلى حيث عربنا.
لم يطل المقام بنا في الحرة، فقد قرر جمع من عربنا النّجعة نحو الشمال، فالتحقنا بهم، وفرحت رغم قسوة المسير، لأني قد أرى أهلي، فأشرفنا ذات يوم على نزل بين تلاع ولم أكن أعلم أن والدي من بين ذلك النزل حتى حططنا رحالنا، فجاء، وكان قرانا عنده تلك الليلة. فمكثنا الصيف كله، لكن لم تدم سعادتي طويلا، حيث قرّرت أمي العودة إلى الديار. وبينما هي تشد رحالها جاء والدي وأخذني ومضى بي إلى بيته، وأمي تتوسل إليه وتبكي، لكنه رفض كل توسلاتها، فمضت تقود بعيرها مظعنة وهي تلتفت نحوي، وأنا أصيح حتى توارت، فطالت سنين الفراق ولم أسمع خبرا عنها، وكنت أتمنى لو كانت حاضرة يوم عرسي ومن بعد فرحتها بأولادي، ربما هي قد ماتت. هكذا يقطع أملي طول العهد.
وذات يوم خرجت إلى المحطاب ، وأنا إمرأة ذات عيال، ولم يكن في خاطري ذكر أمي. وبينما كنت أسير وإذا بعجوز ورجل يقود بعيرا، فتنحيت عن طريقهما، فأقبلت العجوز نحوي وسلّمت عليّ، ثم هي تنظر إليّ وكأنها تتعرفني، فقالت لي: أنت فلانة؟ فقلت: أنا هي!
فعانقتني عناقا طويلا وهي تبكي، وأنا مندهشة، وقالت والدموع تسيل على خديها: يا شينة، ما عرفتيني؟ أنا أمك! وأخبرتني أن ذلك الرجل هو أخي!
لقد غيّر الزمان ملامحي وملامح أمي، فتلاقينا على غير ميعاد لقاء الغرباء بعد أن ظننا أن لا تلاقيا.
والسلام
يتبع، إن شاء الله تعالى