صوت عربنا (2)
أهلا بكم من جديد
وبعد:
تموضع النّزل في سوح عريض، تشرق شمسه بين تلال بعيدة، يخفيها بين حين وحين وهج السراب وعجاج تذروه الرياح.
كنت يومها طفلا سعيدا وأنا أرى الناس من حولي وأصواتهم تملأ مسمعيّ،وقد مرّ عليّ زمان لم أسمع فيه غير صوت أمي حين كنت وإياها وحيدين في ذلك المنعزل البعيد الذي تركناه خلفنا إلى غير رجعة. نعيق البوم والغربان يدل على وحشة المكان.
وما زلت أذكر وبذاكرة فوتوغرافية ذلك المكان الموحش بكل تفاصيله، وأنا أنظر حولي فلا أرى غير وجه أمي الأسمر الذي تعلوه بسمة مشرقة توحي لي اليوم أنها كانت سعيدة قبل أن يستحدث سعداء العالم وزارات للسعادة.
لا صوت غير صوتي وصوت أمي، أناديها وتناديني، وثغاء شويهات، وجمل يرغي، وحمار ينهق بين السّدّين، وديك يصيح فوق الزّرب، وكلب ينبح في قاصية الزمن!
كان الفصل شتاء، ولا شيء يستر عورتنا ويقينا الريح العاصف والبرد القارس غير سريحة من رواق منسدلة على فوهة ذلك التجويف الصخري (الطّور ) الذي شهد تسجيل أول أفلامي الوثائقية.
جميل أن تجد جدارا من الصخر الصلد يمنحك الدفء والحياة، ولا نور فيه ليلا غير شعلة شهاب، والسكون والظلام يخيّم على المكان، وقد يأتي النور الساطع مع ومضة برق، تسبق قعقعة رعد، ترتج لها تلك اللجاليج.
كانت أمي سعيدة بهذا الكائن الحي ( أنا )، وأن الحياة بوجودي ستكون أجمل، وهي تدعو الله أن أتجاوز نكبة الحصبة التي أهلكت من كان قبلي من إخوة. وقد علمت- لاحقا - أن ولادتي كانت سهلة وميسرة. وضعتني أمي وهي في طريق عودتها من المحطاب. لا بد وأن صرخاتي ملأت ذلك الخلاء الخالي ، وعوعات لم تصل بعد إلى مسامع أحد غير أمي التي تكابد وحدها من أجل حياة ومتاع لا يعبأ بحمله حمار .
كان اسمي يشغل بال أمي، ولم تجد من يشاركها مراسيم تسميتي، فوضعت رأسها في تلك الليلة الحالمة وهي تفكر في اسم يليق بمقامي، فجاءها الخبر العاجل على شريط الأحلام. اسم حظي بأكثر عدد من النقاط بين أسماء البشر، لكن لم يحظ بشرف الالتحاق بسجل المواليد في هذا العالم. لا حاجة لي بشهادة ميلاد تثبت وجودي بين تلك "العراقيب"، فالاسم حصلت عليه بمجرد حلم عابر، والوظيفة لا تستدعي شهادة علمية وسيرة ذاتية ومقابلة شخصية مع التيس الأقرن،ورفيقة العمر المرتقبة تمص أصبعها في " الحمّالة "، وعش الأحلام قد يكون كحال ذلك " الطور "تحده جبال شاهقة يطل على شعيب يغمره الرّتم والمرّار.
لم يخطر في بالي يومئذ أن نغادر ذلك المكان إلا حين سمعت صوت وقع أقدامنا على الجرعاء مظعنين، لكن إلى أين؟
قريب، يا وليدي! هكذا أجابت أمي ونحن نسلك تلك العروض المتعرجة سنودا، وكأني سألمس بيدي صفحة السماء!
كنت سعيدا وأنا أمتطي راحلتي في مقدمة الظعن، وكأني القائد " هانيبال" في طريقه إلى غزو "روما "!
واليوم أجد نفسي في بيت شعر تنتصب عمده وتنغرز أوتاده في سوح عريض أرى من خلاله أبعاد السماء واتساعات الأرض.
يا لروعة المكان والزمان، كل شيء يبدو في نظري جميلا، حتى ذلك المعصار (الإعصار ) الذي يجوب السوح طولا، وعجوز أبطأ بها العمر تقول: نوح!. ربما هي تدعو الله أن ينحاه عنا.
لقد اجتمعنا في ذلك السوح على ميعاد،وتعالت أصوات عربنا بقدوم نزل جديد حط للتو رحاله، وكان اللقاء بعد شتات عناق ودموع، وقبلات حارة لها صوت، ربما تترك ورما من الشوق على الخدود!
يتبع، إن شاء الله تعالى
أهلا بكم من جديد
وبعد:
تموضع النّزل في سوح عريض، تشرق شمسه بين تلال بعيدة، يخفيها بين حين وحين وهج السراب وعجاج تذروه الرياح.
كنت يومها طفلا سعيدا وأنا أرى الناس من حولي وأصواتهم تملأ مسمعيّ،وقد مرّ عليّ زمان لم أسمع فيه غير صوت أمي حين كنت وإياها وحيدين في ذلك المنعزل البعيد الذي تركناه خلفنا إلى غير رجعة. نعيق البوم والغربان يدل على وحشة المكان.
وما زلت أذكر وبذاكرة فوتوغرافية ذلك المكان الموحش بكل تفاصيله، وأنا أنظر حولي فلا أرى غير وجه أمي الأسمر الذي تعلوه بسمة مشرقة توحي لي اليوم أنها كانت سعيدة قبل أن يستحدث سعداء العالم وزارات للسعادة.
لا صوت غير صوتي وصوت أمي، أناديها وتناديني، وثغاء شويهات، وجمل يرغي، وحمار ينهق بين السّدّين، وديك يصيح فوق الزّرب، وكلب ينبح في قاصية الزمن!
كان الفصل شتاء، ولا شيء يستر عورتنا ويقينا الريح العاصف والبرد القارس غير سريحة من رواق منسدلة على فوهة ذلك التجويف الصخري (الطّور ) الذي شهد تسجيل أول أفلامي الوثائقية.
جميل أن تجد جدارا من الصخر الصلد يمنحك الدفء والحياة، ولا نور فيه ليلا غير شعلة شهاب، والسكون والظلام يخيّم على المكان، وقد يأتي النور الساطع مع ومضة برق، تسبق قعقعة رعد، ترتج لها تلك اللجاليج.
كانت أمي سعيدة بهذا الكائن الحي ( أنا )، وأن الحياة بوجودي ستكون أجمل، وهي تدعو الله أن أتجاوز نكبة الحصبة التي أهلكت من كان قبلي من إخوة. وقد علمت- لاحقا - أن ولادتي كانت سهلة وميسرة. وضعتني أمي وهي في طريق عودتها من المحطاب. لا بد وأن صرخاتي ملأت ذلك الخلاء الخالي ، وعوعات لم تصل بعد إلى مسامع أحد غير أمي التي تكابد وحدها من أجل حياة ومتاع لا يعبأ بحمله حمار .
كان اسمي يشغل بال أمي، ولم تجد من يشاركها مراسيم تسميتي، فوضعت رأسها في تلك الليلة الحالمة وهي تفكر في اسم يليق بمقامي، فجاءها الخبر العاجل على شريط الأحلام. اسم حظي بأكثر عدد من النقاط بين أسماء البشر، لكن لم يحظ بشرف الالتحاق بسجل المواليد في هذا العالم. لا حاجة لي بشهادة ميلاد تثبت وجودي بين تلك "العراقيب"، فالاسم حصلت عليه بمجرد حلم عابر، والوظيفة لا تستدعي شهادة علمية وسيرة ذاتية ومقابلة شخصية مع التيس الأقرن،ورفيقة العمر المرتقبة تمص أصبعها في " الحمّالة "، وعش الأحلام قد يكون كحال ذلك " الطور "تحده جبال شاهقة يطل على شعيب يغمره الرّتم والمرّار.
لم يخطر في بالي يومئذ أن نغادر ذلك المكان إلا حين سمعت صوت وقع أقدامنا على الجرعاء مظعنين، لكن إلى أين؟
قريب، يا وليدي! هكذا أجابت أمي ونحن نسلك تلك العروض المتعرجة سنودا، وكأني سألمس بيدي صفحة السماء!
كنت سعيدا وأنا أمتطي راحلتي في مقدمة الظعن، وكأني القائد " هانيبال" في طريقه إلى غزو "روما "!
واليوم أجد نفسي في بيت شعر تنتصب عمده وتنغرز أوتاده في سوح عريض أرى من خلاله أبعاد السماء واتساعات الأرض.
يا لروعة المكان والزمان، كل شيء يبدو في نظري جميلا، حتى ذلك المعصار (الإعصار ) الذي يجوب السوح طولا، وعجوز أبطأ بها العمر تقول: نوح!. ربما هي تدعو الله أن ينحاه عنا.
لقد اجتمعنا في ذلك السوح على ميعاد،وتعالت أصوات عربنا بقدوم نزل جديد حط للتو رحاله، وكان اللقاء بعد شتات عناق ودموع، وقبلات حارة لها صوت، ربما تترك ورما من الشوق على الخدود!
يتبع، إن شاء الله تعالى