رجل من تاريخ تبوك وحالة عمّار !!
الحمد لله على كل حال ، لا أعلم من أين أبدأ وماذا سأكتب وعلى ماذا سأختم ، لقد رحل رجلٌ يصعب لمثلي أن يكتب عنه ، وإن كتبت فحتمًا لن أوفيه جزء من حقّه ، ولن أبالغ ، فمحبيه يدافعون عنه أكثر .*
لقد رحل والدي الذي طالما لازمته بطفولتي*
لقد رحل والدي الذي أتّبع خطواته بمراهقتي
لقد رحل والدي الذي طالما لازمته برجولتي
لقد رحل صديقي الذي أئتمنه سري وأشاوره بكل كبيرة وصغيرة
لقد رحل أحد " أخوياي " بالسهرة*
لقد رحل الرّاوي وعَبَق التاريخ*
لقد رحل الحكيم والأمثال وأجمل القَصَص و " السوالف "
لقد رحل الصّلح والجاهَة وأعمال الخير
لقد رحل الحنان والعطف والحنكة
لقد رحل السّحاب وأخبار الأمطار والسيول
لقد رحل سهيل والمربعانية والربيع*
لقد رحل البرق والرعد والعقربان*
لقد رحل القنص والرحلات والبر والجبال والأودية
لقد رحل الدواء والأعشاب و الكَي و " المحاوِر "*
لقد رحل الضحك والطرافة ورجل المواقف*
لقد رحل السؤال والاستفسار والمشاورة
لقد رحل الصّابر المحتسب*
لقد رحل الشّاكر الحامد*
لقد رحل الموسوعة*
لقد رحل " أبوي " رحمه الله*
مع كل رحيل قصة وموقف ، فهل أوفيه حقه ؟! بالطبع لن أكتب إلّا قطرة في بحر ، وورقة في مكتبة ، وسطرٌ بين مجلّدات .
إنه " أبوي " محمود بن محمد العبيدان ، كما يُعرف بين النّاس بـ " أبو محمد " ، تربّى وترعرع في تبوك ، بين القلعة وعين السّكر ومسجد الرسول - كما نسميه - ، أو كما يسمونه حديثًا " الجامع الأثري " ، دعوني أعرج قليلًا لجدّي محمد ( أبو عيسى ) رحمه الله ، فله الأثر الأكبر في حسن سيرته ، فقد كان مؤذنًا امسجد الرسول ما يزيد عن 50 سنة ، ومن كان والده مؤذّنا حُقّ له أن تكون سيرته من أجمل السيّر على ما تربّى بين الله أكبر وقد قامت الصلاة ، يذكر لي والدي رحمه الله أن بطفولته كان يقوم بتنظيف المسجد صباح كل يوم جمعة مع عمي إبراهيم أطال الله بعمره للخير جَبرًا بأمرٍ من والده ، فمن كانت طفولته بالمسجد حتمًا ستكون سيرته تعجّ بأعمال الخير والصلاح ، إنها التربية الدينية التي افتقدناها مع الأجيال التالية .
كان والدي رحمه الله محبًّا جدًّا لأعمال الخير مهما كانت شاقة وبالطبع على قدر استطاعته ، فمنذ طفولتي كنت أراه يوزع الأرزاق على البيوت ولا أعلم ما هذا ولماذا ! ولا أسمع من أهل البيت إلّا " هلا والله بأبو محمد " !
حينما كنّا في حالة عمار كان رحمه الله يُورد الماء من ارتواز " ذات الحاج " ويقوم بسقيا " البرك " الخاصة للإبل في ذات الحاج وخلف شركة الكهرباء ، ثم يقوم بتعبئة خزانات جميع جيرانه ، كنت معه رحمه الله في كل ما سبق وكأني أراها رؤيا العين وكلي سعادة وأنا بـ " الوايت " ، ومن المواقف : جارتنا " أم يزن " كانت جديدة على الحي ولا تعرف والدي ، فلما طرق الباب ونادى " يا بنت " ، كانت وجِلة وأشعرها بوجودي معه لتهدأ ، ثم فتحت الباب وقمنا بتعبئة الخزان ، فلما سألت زوجها فيما بعد ، قال لها : هذا جارنا أبو محمد " حياه الله بأي وقت " .
لازمته بطفولتي في مجلسه ومجالس أصدقائه وكنت أسمع دومًا الترحيب الشديد والفرح بقدومه ، مما ربّى في نفسي الثقة بالنفس والإعتزاز دومًا بوالدي رحمه الله .
في جعبتي الكثير والكثير من مواقف الطفولة ولكن أكتفي بأنّي أذكر اللحظة الأولى التي رأيت بها صديقه الشيخ عدنان رحمه الله في جامع حالة عمار ، سأل الشيخ والدي ما اسمه ، ثم سألني : ماذا تحفظ من القرآن ، فقرأت له سورة الناس بطريقة طفولية ، وكانا يضحكان على طريقة قراءتي ، وقد كتبت مقالًا عن الشيخ عدنان رحمه الله بعنوان : رجل من تاريخ حالة عمار .
ومن أصدقائه الخاصين في تلك الفترة : فرحان العليين ووالده سحمان عليهم رحمة الله ، فلهم حقٌّ علي بذكرهم لينالوا الدعوات .
ومن المجالس التي يتردد إليها ، مجلس حميّر العطوي رحمه الله المعالج بالكَي المعروف وخضر العرجان أطال الله بعمره للخير وخضر أبو ذياب العمراني رحمه الله والكثير الكثير ...
وأعتذر لبقيّة أصدقائه فالقائمة أطول مما تعتقدون .
ولا أنسى أنه رحمه كان يقوم بإيصال المصاحف لجامع حالة عمار في موسم الحج ، ويتم توزيعها على الحجاج من قِبل الشيخ عدنان رحمه الله وطلابه ، هنا أكتفي بمرحلة حالة عمار .*
في تبوك لازمته كرجل ولا أخفيكم كنت كالطفل ملازم له رحمه الله ، أينما يذهب أكون معه لأتعلم منه وأتابع حالته الصحية وألبّي طلباته ، وكنت أرى بعينه إعجابه بذلك ، ويفتقدني إذا لم يراني أو أسأل عنه ويتصل : " وينك ماني شايفك " ، كنت أراهٌُ والدًا و صديقًا ، مجلسنا واحد فبعد صلاة المغرب نتقابل بمجلس صديق الطفولة العم صالح بن رضا رحمه الله ، حتى بعد وفاته مجلسه عامر وبشكل يومي .*
كان رحمه الله مهيبًا رزينًا عزيز النفس ذو ذاكرة قوية ، يذكر تفاصيل قد لا تخطر على بال المستمع ، كان مرجعًا لمن بعده حول تاريخ تبوك وأسرهم وعوائلهم ،.
كان محبًّا للبر والقنص والصحراء ومرجع الكثير بأسماء المناطق والجبال والأودية والأعشاب ، فضلًا كان مرجعي الوحيد حول ذلك كله رحمه الله .*
أذكر أنني ذهبت لمنطقة صحراوية جديدة علي ، وذهبت لوالدي أحدثه عنها معجبًا بنفسي وأسأله " جيتها يابوي ؟ " وكان ردّه " يا هملالي ، كنا نحتطب منها على حمير " ، ومن قصص المقناص أنه ورفيق دربه صالح بن رضا كانوا في رحلة مقناص في عز شبابهم والسائق " المهيب " العم علي بن رضا رحمهم الله جميعًا ، وقد اصطادوا سبع ظباء والثامن لم يستطيعوا صيده ، فما كان من العم علي إلا توبيخ أخوه صالح ووالدي رحمهم الله قائلًا : " لابوكم لابو من أخذكم معه وأعطاكم سلاح " وقد كان يكبرهم سنًّا ، سمعت القصة منه وهو معجب بهيبة صديقه العم علي .*
كان والدي رحمه الله يعالج عن داء " أبو الوجيه " أو كما يسمى " البريقع " ، وكان يتوافد عليه الكثير من الناس ليتعالجون عنده من شتى المناطق ، وعلاجه بالماء والزيت ثم الكَي بـ " المحاور " ، وكنت أرى ذلك وأتعلم منه وأجهز له الأدوات .*
أما أعمال الخير في تبوك كان يحمل الأرزاق من حر ماله أو من فاعلي الخير ويقوم بتوزيعها على الفقراء والمساكين من المواطنين أو الوافدين العرب والعجم ولا يهمه عرق المحتاج ، فجميع الناس عنده سواسية ، وكثيرًا ما يزور المرضى في منازلهم أو المستشفيات ، وأذكر اهتمامه الكبير بزيارة العم إبراهيم أبو مازن الذبياني رحمه الله في مرضه ، والعم سليمان بن عيد الحويطي أطال الله في عمره في منازلهم وتشديده لي بزيارتهم بالمناسبات خاصةً الأعياد ، رحمه الله كنت أعتمد عليه بتوصيل زكاة الفطر والصدقات بدون منّة على الله .*
بعد صلاة فجر كل يوم يزور صديقه القديم رجل الأعمال العم عبدالعزيز العجاجي أطال الله في عمره ، وكان والدي رحمه الله مشرفًا على بناء جامع العجاجي في تبوك القديمة " حي أم درمان " أو كما يسمى حاليًّا " جامع عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما " .*
ولا أنسى صديقه العزيز العم محمد سليم الجهني والذي يحمل له حب الصداقة العميق ، وكم وصّاني بالسؤال عنه والسلام عليه ، حتى طريقة السلام كان يدقق بها لعظيم مكانة عم محمد ، فضلًا أنه أخوه من الرضاعة وصديق الطفولة .*
أظن أنني استرسلت وما زال بجعبتي الكثير ولربما أكتبها للتاريخ في غير زمان ومكان ، وأختم بخاتمته رحمه الله .
قبل رحيله بشهر رأيت رؤيا عظيمة ، علمت يقينًا أن والدي راحل قريبًا لا محالة ، وكنت أعزيه في حياته بشكل يومي ، وأنتظر اليوم الموعود ، حتى أصيب بوعكة صحية زرنا على إثرها المستشفى ورفض حينها الجلوس بالمستشفى رغم تحذير الأطباء له ، وقال لي حينها : " يا فهد أنا ميت ميت ، جدّك مات ، ما أبغى أموت بالمستشفى ، أموت عند عيالك " ولم يستمر بعد وعكته كثيرًا حتى جاء يوم الرحيل بتعرضه لوعكة هي بالأصح سكرات الموت بتاريخ 1439/7/8هـ ، وبعشيّة رحيله كان صحيحًا معافى عند أصدقائه بكامل قواه كعادته .
والدي رحمه الله لا أقول عن موته إلّا " مات واقف " ، والحمد لله على كل حال .*
والدي رحمه الله قبل وفاته كان يعلم يقينًا بدنو أجله ، فقد رؤى رؤيتين :*
أمّا الأولى فقد رأى أمه " جدتي " تضحك وتقول له مبروك .
الرؤيا الثانية رأى في المنام صديقه العم صالح بن رضا رحمه الله يناديه .
ومن المبشرات : توافد جم غفير للصلاة عليه وبالمقبرة وبالعزاء ، من الأهل والأصدقاء وأهالي منطقة تبوك بشتى أطيافهم ، من مسؤولين ورجال أعمال حتى العمّال - ولا أستنقصهم - ، حتّى تفطّرت قدماي من السلام ، وهم شهود الله في الأرض .*
ومن المبشّرات : بعد رحيله رأى أحد أصدقائه وهو أبو عبدالرحمن أحمد الجربوع أنه في بيت شَعر كبير يضم كل أصدقائه ، وقد مر والدي بمنتصف البيت ويسأل أبو عبدالرحمن : " مريض أوديك المستشفى " وقال له : لا الحمد لله ، كان والدي حينها أبيضًا مشرئبًّا بحمرة - وهو خلاف ذلك بالواقع - يلبس غترة بيضاء . انتهت الرؤيا ، ولا أظن الرؤيا تحتاج لمفسرًا حاذقًا .
ومن العجائب تاريخ رحيله هو نفس تاريخ يوم زواجه :
زواجه يوم الأحد 1394/7/7 هـ*
رحيله يوم السبت 1439/7/7 هـ*
زُفّ للجنة بإذن الله*
وداعًا " يابوي " سأفتقدك كثيرًا وأشتاق إليك أكثر*
وداعًا يا صديقي سأفتقدك بالمجلس*
وداعًا يا " خُوي " البَر
وداعًا يا رفيق الدّرب
وداعًا يا أمين السّر*
وداعًا يا شريك الهوايات والطّبع
رحمك الله وغفر لك وجمعني وإياك وجميع المسلمين بالفردوس الأعلى .*
تم إطلاق هاشتاق بتويتر لمحبيه ولمشاركاتكم :
#عنمحمودالعبيدانابومحمدرحمهالله
دمتم محفوفين بوالديكم ،،،
حرّر يوم السبت : 1439/7/14 هـ .