جهاد الهرج !
أهلا بكم من جديد
يقولون " إذا أفلس التّاجر بحث في دفاتره القديمة "
وفي هذه الليلة كنت أبحث بين أوراقي المبعثرة عن أشياء كتبتها في زمن العتمة لكي أخرجها إلى النور، فعثرت على مقال قديم كنت قد كتبته في ليلة ظلماء صمتت فيها قعقعة ماتور الديزل (مولد الكهرباء ) فأكملت المقال على ضوء صاحبي القديم (الفانوس ).
كان عنوان المقال " خيار الحرب وفقّوس السلّام " ولعل عشقي للسلطة والمخلللات أوحى لي بذلك العنوان الذي يصلح أن يكون يافطة على بوابة سوق خضار العالم .
أعدت قراءة المقال فأصبت بالدهشة ومن ثم الإحباط لأني لا أستطيع أن أمسح عنه غبار السنين، ويكون له الشّرف أن يقرأه أحد غيري . فتذكرت شمعة " خلف العتيبي "
الشمعة اللي تجيب النور محروقة قطعت سلوك المحبة يا الله الخيرة
كفّي وعفّي عن اللّي ضاع صندوقه بعد الفوايد كثيرات مخاسيره
ومن بين تلك الأوراق وجدت مقالا ما زلت أحتفظ به منذ خمس عشرة سنة، كتبه صاحبه تحت اسم مستعار، فقرأته وكأنه يعبر عما بداخلي .
يقول الكاتب:
كنت أكتب باندفاع الشّاب الذي يأكلُ بإفراطٍ بدونِ أن يُراقبَ معدّلاتِ الكولسترولِ والضّغطِ والسُّكر .والآن أنا أكتبُ بطريقةِ ذلك العجوزِ الذي يجلسُ على الكرسيّ المدولبِ ويأخذُ إبرَ الإنسولين ،وحبوبَ الضّغطِ ويعاني من آلامِ المفاصلِ
كانت الأفكارُ تُلاحقني وتتمسّكُ بي كمتسوّل أو لص ،والآن ، اختفى جميعُ الشحّاذينَ واللّصوص وأصبحتُ أطاردُ أفكاري كما يطاردُ الدّائن مديناً ليست لديهِ نيّةُ السّداد ! .فعزمتُ على تركِ الكتابة ؛ لأنّها لم تعُد تغريني .
لذّتُها في السّابقِ تكمنُ في كونها كانت فعلاً مُشرّداً لا أبَ له ولا أصدقاء ،والآن هي أشبهُ بذلك الرّجلِ العاري الذي يلتفُّ حولهُ العشراتُ من المحدّقين ، ولا يشيحونَ بأنظارِهم حتى للمُجاملة .
ليس ممتعاً بالضّرورةِ أن تكتبَ وخلفكَ من يأخذُ عيّناتٍ من حِبرك ، يشمُّ حروفكَ بطريقةٍ بوليسيّة ، ثم يومئُ برأسهِ إيجاباً لكي تعبرَ شُحنةُ عباراتكَ بسلام .
نحن نحبُّ الكتابة ، نفهمها جيّداً ، وبما أنّنا جميعاً مُطّلعون على أسرارِ المهنة ، ليس غريباً أن يعترفَ أحدُنا بأنّنا لم نكتبْ إلا لأنّنا أجبنَ من أن نفعلَ شيئاً آخر ، أو لأنّنا فشلنا في بقيّة الأمورِ الأخرى فشلاً ذريعاً ! . وأنا أيضاً - فشلتُ في كثيرٍ من الأشياءِ قبل أن أكتُب، وبعد أن كتبتُ لم يقلّ فشلي عمّا كان عليه ، بل قد يكونُ ارتفعَ بطريقةٍ مّا ! ، إنّما بفضلِ الكتابةِ حتّى الفشل يمكنهُ أن يكون شيئاً جميلاً إذا كُتِب بالفُصحى ووُضِعت عليهِ بعضُ علاماتِ التّشكيل ! .
فالخدعةُ - حين تكتُبها - تقومُ بالانطلاءِ عليك قبل أن يُصدّقها الجميع ، بل إنّك قد تبالغُ في تصديقها أكثرَ منهم جميعاً ! .
ليس ذنباً لي حين اعتقدوا أنّ الكتابةَ هي نوعٌ من ممارسةِ الشّجاعة ، إنّها أشبهُ بإضافةِ الكثير من الماءِ إلى أسيدِ الحُزن، والاستمرارِ في إضافتهِ حتى يتخفّفَ طعمُ الحقيقةِ وينتهي ، وبالكادِ تبقى للحزنِ فيها رائحة ! .
لذا كتبتُ .. ككُلّ التُّجارِ الذين يودُّون تصريفَ بضاعتهِم بأيّةِ طريقةٍ ممكنةٍ ، ككلِّ اللّصوصِ الذين يتخلّصونَ من الحمولةِ الزّائدةِ من فوق الجسرِ ليواصلوا الهربَ أسرَع ! .
وكم قلتُ بأنّني لن أكتُب، ولكنّني أعودُ وأفعل ، ليس لأنّ الكتابةَ شيءٌ جميلٌ لا أستطيعُ نسيانه ، بل لأنها الأمرُ الوحيدُ الذي يقبلُ جميعَ أنواع الكَذبات .
والكلامُ الصّادق كالفاكهة ، يذبلُ إذا أطال البقاءَ في صدرك ، ويسودُّ ، ثمّ يصبحُ غير صالحٍ للاستهلاكِ الآدمي ! .لذا يأكلُ النّاس الفاكهة في آنها ، ولكنّهم يبقون الصّدق في صدورِهم حتى يفسُد ، ويتجعّد ! .وأودُّ لو أغسل فاكهةَ الكلام ، وأدفعها إلى أيّ أحد .. قبل أن تفسُد في داخلي، وتتعفّن ! ،غير أنّني لا أملكُ منها ما يكفي ، وما لديّ من كلامٍ صادقٍ يشبهُ خبزَ الفقراء .. جافٌّ ويابسٌ وقاسٍ ، وشحيحْ ! .. فأبلُّهُ بالماءِ ، والبلاغةِ ، والكذبِ ، لعلّه يلين، وأدفعهُ للجائعين ! .
والسّلام
أهلا بكم من جديد
يقولون " إذا أفلس التّاجر بحث في دفاتره القديمة "
وفي هذه الليلة كنت أبحث بين أوراقي المبعثرة عن أشياء كتبتها في زمن العتمة لكي أخرجها إلى النور، فعثرت على مقال قديم كنت قد كتبته في ليلة ظلماء صمتت فيها قعقعة ماتور الديزل (مولد الكهرباء ) فأكملت المقال على ضوء صاحبي القديم (الفانوس ).
كان عنوان المقال " خيار الحرب وفقّوس السلّام " ولعل عشقي للسلطة والمخلللات أوحى لي بذلك العنوان الذي يصلح أن يكون يافطة على بوابة سوق خضار العالم .
أعدت قراءة المقال فأصبت بالدهشة ومن ثم الإحباط لأني لا أستطيع أن أمسح عنه غبار السنين، ويكون له الشّرف أن يقرأه أحد غيري . فتذكرت شمعة " خلف العتيبي "
الشمعة اللي تجيب النور محروقة قطعت سلوك المحبة يا الله الخيرة
كفّي وعفّي عن اللّي ضاع صندوقه بعد الفوايد كثيرات مخاسيره
ومن بين تلك الأوراق وجدت مقالا ما زلت أحتفظ به منذ خمس عشرة سنة، كتبه صاحبه تحت اسم مستعار، فقرأته وكأنه يعبر عما بداخلي .
يقول الكاتب:
كنت أكتب باندفاع الشّاب الذي يأكلُ بإفراطٍ بدونِ أن يُراقبَ معدّلاتِ الكولسترولِ والضّغطِ والسُّكر .والآن أنا أكتبُ بطريقةِ ذلك العجوزِ الذي يجلسُ على الكرسيّ المدولبِ ويأخذُ إبرَ الإنسولين ،وحبوبَ الضّغطِ ويعاني من آلامِ المفاصلِ
كانت الأفكارُ تُلاحقني وتتمسّكُ بي كمتسوّل أو لص ،والآن ، اختفى جميعُ الشحّاذينَ واللّصوص وأصبحتُ أطاردُ أفكاري كما يطاردُ الدّائن مديناً ليست لديهِ نيّةُ السّداد ! .فعزمتُ على تركِ الكتابة ؛ لأنّها لم تعُد تغريني .
لذّتُها في السّابقِ تكمنُ في كونها كانت فعلاً مُشرّداً لا أبَ له ولا أصدقاء ،والآن هي أشبهُ بذلك الرّجلِ العاري الذي يلتفُّ حولهُ العشراتُ من المحدّقين ، ولا يشيحونَ بأنظارِهم حتى للمُجاملة .
ليس ممتعاً بالضّرورةِ أن تكتبَ وخلفكَ من يأخذُ عيّناتٍ من حِبرك ، يشمُّ حروفكَ بطريقةٍ بوليسيّة ، ثم يومئُ برأسهِ إيجاباً لكي تعبرَ شُحنةُ عباراتكَ بسلام .
نحن نحبُّ الكتابة ، نفهمها جيّداً ، وبما أنّنا جميعاً مُطّلعون على أسرارِ المهنة ، ليس غريباً أن يعترفَ أحدُنا بأنّنا لم نكتبْ إلا لأنّنا أجبنَ من أن نفعلَ شيئاً آخر ، أو لأنّنا فشلنا في بقيّة الأمورِ الأخرى فشلاً ذريعاً ! . وأنا أيضاً - فشلتُ في كثيرٍ من الأشياءِ قبل أن أكتُب، وبعد أن كتبتُ لم يقلّ فشلي عمّا كان عليه ، بل قد يكونُ ارتفعَ بطريقةٍ مّا ! ، إنّما بفضلِ الكتابةِ حتّى الفشل يمكنهُ أن يكون شيئاً جميلاً إذا كُتِب بالفُصحى ووُضِعت عليهِ بعضُ علاماتِ التّشكيل ! .
فالخدعةُ - حين تكتُبها - تقومُ بالانطلاءِ عليك قبل أن يُصدّقها الجميع ، بل إنّك قد تبالغُ في تصديقها أكثرَ منهم جميعاً ! .
ليس ذنباً لي حين اعتقدوا أنّ الكتابةَ هي نوعٌ من ممارسةِ الشّجاعة ، إنّها أشبهُ بإضافةِ الكثير من الماءِ إلى أسيدِ الحُزن، والاستمرارِ في إضافتهِ حتى يتخفّفَ طعمُ الحقيقةِ وينتهي ، وبالكادِ تبقى للحزنِ فيها رائحة ! .
لذا كتبتُ .. ككُلّ التُّجارِ الذين يودُّون تصريفَ بضاعتهِم بأيّةِ طريقةٍ ممكنةٍ ، ككلِّ اللّصوصِ الذين يتخلّصونَ من الحمولةِ الزّائدةِ من فوق الجسرِ ليواصلوا الهربَ أسرَع ! .
وكم قلتُ بأنّني لن أكتُب، ولكنّني أعودُ وأفعل ، ليس لأنّ الكتابةَ شيءٌ جميلٌ لا أستطيعُ نسيانه ، بل لأنها الأمرُ الوحيدُ الذي يقبلُ جميعَ أنواع الكَذبات .
والكلامُ الصّادق كالفاكهة ، يذبلُ إذا أطال البقاءَ في صدرك ، ويسودُّ ، ثمّ يصبحُ غير صالحٍ للاستهلاكِ الآدمي ! .لذا يأكلُ النّاس الفاكهة في آنها ، ولكنّهم يبقون الصّدق في صدورِهم حتى يفسُد ، ويتجعّد ! .وأودُّ لو أغسل فاكهةَ الكلام ، وأدفعها إلى أيّ أحد .. قبل أن تفسُد في داخلي، وتتعفّن ! ،غير أنّني لا أملكُ منها ما يكفي ، وما لديّ من كلامٍ صادقٍ يشبهُ خبزَ الفقراء .. جافٌّ ويابسٌ وقاسٍ ، وشحيحْ ! .. فأبلُّهُ بالماءِ ، والبلاغةِ ، والكذبِ ، لعلّه يلين، وأدفعهُ للجائعين ! .
والسّلام