( الراعية والدراويش )
قابلت الراعية في مرابع حسمى على مقربة من طريق القوافل ، فإذا بها جائعة ، قد أنهكها الإِعياء.
فقلت لها: ما شاء الله تبدين بإشراق ونور.
قالت: بل إني لم أجد طعاما لأكثر من أسابيع ، فإذا كان معك شيء جاهز، فمدّني به ، فأخرجت لها خبزا، والتهمته في الحال، وتشاغلت عنها بإصلاح المستلزمات داخل السيارة حتى مضى وقت ليس باليسير.
فقلت لها: لست أعهد الطلب الأكل منكِ.
فقالت: أخذتُ العبرة من الدراويش ، فقد داهمني رجال منهم ، فإذا هم متهالكون مسغبون تصفهم بكل أوصاف المآسي ولا تخشى الزلل، فأخبرتني أنها ؛ قالت لهم : هل أعطيكم شاه تذبحونها، قالوا: لا .
وقالت لهم: إلى أين ذاهبون؟
قالوا: للحج ، فهذه حالهم ويريدون أن يواصلوا المسيرة.
فقالت: خذوا راحتكم زمنا قليلاً، وأعطوني شيئاً قليلاً مما يصلح للأكل، قالوا: والله لا نملك تمرة واحدة، فتبين لي أن الجوع كاد يقضي عليهم جميعاً، وتناولت مديتي، وذبحت شاة ، فاستدعيتهم لسلخها فأقبلوا عليها، وذهبت أحتطب لهم ، وإذا بهم يجمعون الحطب من جهة ثانية، فأكلوا منها كل يومهم وليلتهم وهم لا ينضجون اللحم حتى لا تذهب مادته ولكي يمكث طويلا تحت الهضم، وكذلك لا يضعون حاجزا بينه وبين الجمر، ثم واصلوا مسيرتهم ، ومكثت أياما طويلة ، أجمع من آثار الشاة حتى لم أجد شيئاً حتى العظام والجلد ، فأصابني الإنهاك كما ترى، وتفكرت في الأمر ؛ هل من الزهد أن لا تعمل لكي تجني، وهل من الزهد: أن لا تخبر الناس بحاجتك ، فأقتنعت أن وجود الأسباب وتركها ليس من الزهد في شيء ولا سيما عند الخشية من الهلاك .
قلت: الآن أدركت أن تلك الفلسفة الجديدة دفعتك إلى طلب الغذاء عند الضرورة.
قالت: الأمر كذلك .
قلت: الا يُخشى أن يدفعهم الجوع للسطو والفتك والسرقة.
قالت: أبداً ، لم يحدث منهم على مرّ السنين، وهم أيضاً لا يخشون الفتك بهم، لأن الناس يدركون أنهم لا يملكون ولا يحملون شيئاً يغري بهم.
قلت: إن الجزيرة تصحرت، ونضبت المياه إلا في أماكن معدودة ، فكيف يتغذون؟
قالت: غذاؤهم الصبر، والشجر، وطلب الأجر ممن يرونهم وكذلك ينال الأجر من يقوموا بضيافتهم وخدمتهم وحمايتهم، وهم يُعبرون عن مأساتهم بأحوالهم الشاحبة وأشكالهم، فهي وسيلة سؤالهم.
قلت: إذن للناس مواقف تنقذهم.
قالت: العرب جبلوا على الكرم، والمجاعات منذ القدم فتوارثوها وتورثوا الكرم لها ، فالأكثر من الأعراب والبوادي يعترضهم ويعمل لهم الأكل، ويدلهم على الماء، ويدثرهم في الشتاء .
قلت: إنني سمعت من متقدمي السن نزرا من مآسيهم وأخبارهم وتفاخرهم بخدمتهم والكرم لهم .
قالت: كم رأيتُ! من جثث لهم في رؤوس الجبال وقريبا من الطرقات يموتون سغبا وعطشا واعتداء من الوحوش ؟
قلت: حدثني أحد الأقرباء أنه في صغر سنه رأى خمسة من الدراويش موتى ، فتهافت إليهم النزل وحفروا لهم قبورا وواروهم فيها، وذكر لي آخر بأنه رأى في غار صغير قماشا يتحرك فأقبل عليه مع أخته الصغرى وهم يرعون البهم ، فإذا رجل ميت وعبثوا بملابسه، فإذا حديد صغير معه ، فأخذوا يلعبون به، ثم أدركوا فيما بعد أنه عُملة من الفضة.
قالت: ذلك من الذين يعملون جهدهم ويتزودون ، ولكن جلّ الدارويش يذهب إلى الحرمين متى طرأ عليه ورغب ، ولا علم لأهله ولا لصحبه ، ولم يعد زادا ويتواكل، فيسافر على أقدامه، فيمكث شهورا ، ثم يعود إن لم يمت .
قلت: من أين أكثرهم؟ قالت: من مصر موطن ابن الفارض ، والسيد البدوي ، ومنهم من الشام.
قلت: وبعضهم من حاضرة اليمن وبيت المقدس ، وقد أدركت معمرا كريماً يذكرون شيوع كرمه في البوادي ومن أعماله أن رأى جمعا كثيرا ، فإذا بهم من الدراويش ، فجمعهم وذبح لهم الذبائح ومكثوا عنده في النزل يومين ، ثم غادروا وبعد سنة ذهب أبناء الرجل وأقرباؤه إلى الكرك والبلقاء، وإذا بخبر الضيافة، قد أنتشر في تلك الديار، حتى بين القبائل ، وكرموا أقرباءه ، وكل يفتخر بقربه.
قلت: هم شأنهم شأنكِ، كيف تقضون الأوقات في هذه الخلوات؟
قالت: أكثر هؤلاء يحفظون القرآن ويتلونه في مسيرتهم ويسبحون ويكبرون ويذكرون الله كثيراً.
قلت: بل أكثرهم علماء أو شعراء، وذكر لي أحد الأقرباء أن درويشا، حلّ ضيفا على نزلٍ وأعطوه ما يغذيه ، فلما أقرب المساء جاءت كوكبة من الركب، فاستقبلهم الرجال ونزل الضيوف في المضيف وحددوا أنهم ضيوف على أحدهم ليطلبوا إحدى بناته ، فقدم لهم المائدة، وأعطى الدراويش قسما منفردا ؛ فقال الضيف: لماذا تعزلون هذا الرجل ؛ فقال: إنه درويش فأقسم عليه أن يشاركهم المائدة مباشرة، وفي الصباح بعد أن أتفق الطرفان واتفقوا على الذهاب لعاقد الأنكحة ، ثم تداولوا الحديث وحاول استثارة الدرويش، فأتى لهم بالأبيات التالية:
شبعنا وشبع الذر من زاد سورنا وللذر من زاد الكرام معاش
يعطي العطا من كان طبعه العطا ويمن العطا من كان خاله لاش
من لا يعرب منسبه قبل منشبه تروح عيلاته عليه ابلاش
وقد أعرض الضيف عن خطبة الفتاة، وعن نسب ذلك الرجل الذي عزل الدرويش عن المائدة.
قابلت الراعية في مرابع حسمى على مقربة من طريق القوافل ، فإذا بها جائعة ، قد أنهكها الإِعياء.
فقلت لها: ما شاء الله تبدين بإشراق ونور.
قالت: بل إني لم أجد طعاما لأكثر من أسابيع ، فإذا كان معك شيء جاهز، فمدّني به ، فأخرجت لها خبزا، والتهمته في الحال، وتشاغلت عنها بإصلاح المستلزمات داخل السيارة حتى مضى وقت ليس باليسير.
فقلت لها: لست أعهد الطلب الأكل منكِ.
فقالت: أخذتُ العبرة من الدراويش ، فقد داهمني رجال منهم ، فإذا هم متهالكون مسغبون تصفهم بكل أوصاف المآسي ولا تخشى الزلل، فأخبرتني أنها ؛ قالت لهم : هل أعطيكم شاه تذبحونها، قالوا: لا .
وقالت لهم: إلى أين ذاهبون؟
قالوا: للحج ، فهذه حالهم ويريدون أن يواصلوا المسيرة.
فقالت: خذوا راحتكم زمنا قليلاً، وأعطوني شيئاً قليلاً مما يصلح للأكل، قالوا: والله لا نملك تمرة واحدة، فتبين لي أن الجوع كاد يقضي عليهم جميعاً، وتناولت مديتي، وذبحت شاة ، فاستدعيتهم لسلخها فأقبلوا عليها، وذهبت أحتطب لهم ، وإذا بهم يجمعون الحطب من جهة ثانية، فأكلوا منها كل يومهم وليلتهم وهم لا ينضجون اللحم حتى لا تذهب مادته ولكي يمكث طويلا تحت الهضم، وكذلك لا يضعون حاجزا بينه وبين الجمر، ثم واصلوا مسيرتهم ، ومكثت أياما طويلة ، أجمع من آثار الشاة حتى لم أجد شيئاً حتى العظام والجلد ، فأصابني الإنهاك كما ترى، وتفكرت في الأمر ؛ هل من الزهد أن لا تعمل لكي تجني، وهل من الزهد: أن لا تخبر الناس بحاجتك ، فأقتنعت أن وجود الأسباب وتركها ليس من الزهد في شيء ولا سيما عند الخشية من الهلاك .
قلت: الآن أدركت أن تلك الفلسفة الجديدة دفعتك إلى طلب الغذاء عند الضرورة.
قالت: الأمر كذلك .
قلت: الا يُخشى أن يدفعهم الجوع للسطو والفتك والسرقة.
قالت: أبداً ، لم يحدث منهم على مرّ السنين، وهم أيضاً لا يخشون الفتك بهم، لأن الناس يدركون أنهم لا يملكون ولا يحملون شيئاً يغري بهم.
قلت: إن الجزيرة تصحرت، ونضبت المياه إلا في أماكن معدودة ، فكيف يتغذون؟
قالت: غذاؤهم الصبر، والشجر، وطلب الأجر ممن يرونهم وكذلك ينال الأجر من يقوموا بضيافتهم وخدمتهم وحمايتهم، وهم يُعبرون عن مأساتهم بأحوالهم الشاحبة وأشكالهم، فهي وسيلة سؤالهم.
قلت: إذن للناس مواقف تنقذهم.
قالت: العرب جبلوا على الكرم، والمجاعات منذ القدم فتوارثوها وتورثوا الكرم لها ، فالأكثر من الأعراب والبوادي يعترضهم ويعمل لهم الأكل، ويدلهم على الماء، ويدثرهم في الشتاء .
قلت: إنني سمعت من متقدمي السن نزرا من مآسيهم وأخبارهم وتفاخرهم بخدمتهم والكرم لهم .
قالت: كم رأيتُ! من جثث لهم في رؤوس الجبال وقريبا من الطرقات يموتون سغبا وعطشا واعتداء من الوحوش ؟
قلت: حدثني أحد الأقرباء أنه في صغر سنه رأى خمسة من الدراويش موتى ، فتهافت إليهم النزل وحفروا لهم قبورا وواروهم فيها، وذكر لي آخر بأنه رأى في غار صغير قماشا يتحرك فأقبل عليه مع أخته الصغرى وهم يرعون البهم ، فإذا رجل ميت وعبثوا بملابسه، فإذا حديد صغير معه ، فأخذوا يلعبون به، ثم أدركوا فيما بعد أنه عُملة من الفضة.
قالت: ذلك من الذين يعملون جهدهم ويتزودون ، ولكن جلّ الدارويش يذهب إلى الحرمين متى طرأ عليه ورغب ، ولا علم لأهله ولا لصحبه ، ولم يعد زادا ويتواكل، فيسافر على أقدامه، فيمكث شهورا ، ثم يعود إن لم يمت .
قلت: من أين أكثرهم؟ قالت: من مصر موطن ابن الفارض ، والسيد البدوي ، ومنهم من الشام.
قلت: وبعضهم من حاضرة اليمن وبيت المقدس ، وقد أدركت معمرا كريماً يذكرون شيوع كرمه في البوادي ومن أعماله أن رأى جمعا كثيرا ، فإذا بهم من الدراويش ، فجمعهم وذبح لهم الذبائح ومكثوا عنده في النزل يومين ، ثم غادروا وبعد سنة ذهب أبناء الرجل وأقرباؤه إلى الكرك والبلقاء، وإذا بخبر الضيافة، قد أنتشر في تلك الديار، حتى بين القبائل ، وكرموا أقرباءه ، وكل يفتخر بقربه.
قلت: هم شأنهم شأنكِ، كيف تقضون الأوقات في هذه الخلوات؟
قالت: أكثر هؤلاء يحفظون القرآن ويتلونه في مسيرتهم ويسبحون ويكبرون ويذكرون الله كثيراً.
قلت: بل أكثرهم علماء أو شعراء، وذكر لي أحد الأقرباء أن درويشا، حلّ ضيفا على نزلٍ وأعطوه ما يغذيه ، فلما أقرب المساء جاءت كوكبة من الركب، فاستقبلهم الرجال ونزل الضيوف في المضيف وحددوا أنهم ضيوف على أحدهم ليطلبوا إحدى بناته ، فقدم لهم المائدة، وأعطى الدراويش قسما منفردا ؛ فقال الضيف: لماذا تعزلون هذا الرجل ؛ فقال: إنه درويش فأقسم عليه أن يشاركهم المائدة مباشرة، وفي الصباح بعد أن أتفق الطرفان واتفقوا على الذهاب لعاقد الأنكحة ، ثم تداولوا الحديث وحاول استثارة الدرويش، فأتى لهم بالأبيات التالية:
شبعنا وشبع الذر من زاد سورنا وللذر من زاد الكرام معاش
يعطي العطا من كان طبعه العطا ويمن العطا من كان خاله لاش
من لا يعرب منسبه قبل منشبه تروح عيلاته عليه ابلاش
وقد أعرض الضيف عن خطبة الفتاة، وعن نسب ذلك الرجل الذي عزل الدرويش عن المائدة.