أهلا بكم من جديد، وبعد:
ما زلت أتذكر بقلب ينبض بالحياة وذاكرة فوتوغرافية أول راتب أحصل عليه بعد " عصر الفكّة " إنه لم يتجاوز التسعمائة ريال، وكنت سعيدا بذلك المبلغ ، فطرت به إلى حيث تطير الفلوس.
أستطيع الآن أن أجلس بجوار العم " صالح " وأطلب بكل ثقة كرتون عصير " أبو ثلاث جواهر " بدلا من تلك الحبّة التي كان يباشر عليّ بها حين كنت أزوره في متجره بين وقت وآخر . أريد أن أستمتع بحلاوة طعم الدنيا وأعوّض السنين التي خلت بدون فواكه، تلك السنين التي لم يكتشف فيها مختبر جدّتي أي نقص، لا في فيتامين سي، ولا دي!
نظر إليّ العم صالح وقال وهو يبتسم: كرتون!. لم يصدق أنني جاد في إبرام تلك الصفقة إلا حين دفعت له الثمن. وكم كنت مزهوا حين كنت أطوف السوق بنظارة سوداء وساعة سويسرية وجزمة إيطالية. لقد حمل هيكلي العظمي النحيل في ذلك اليوم الأغر أشهر الماركات العالمية، وكنت أشعر أني بحاجة إلى تلسكوب فلكي لكي أحدد مكان هبوطي بعد حين على كوكب المريخ!
في ذلك الزمن كانوا يقولون لنا بأن الفلوس وسخ دنيا " آآآه ". وحين رأيت ما أحدثته تلك الفلوس لم أعد أصدق بتلك النظرية، فأتبعت نفسي هواها.
كانت أمنيتي في عصر الفكّة أن أشتري" سيكل" تلك الأمنية التي عجزت كل الفكّات أن تفكّ تعقيداتها، وها أنا اليوم أستطيع أن أشتري قطيعا من السياكل، لكن العالم من حولي تغيّر، ولم يعد السيكل الأمنية المثلى في عصر " العراوي " .
كانت تلك التسعمائة ريال كفيلة بأن تحدث هزّة في السوق، هكذا كنت أشعر، وأن المائة ريال تجعلك تخرج منه بحمل بعير!
لم يتوقف الراتب عند حد التسعمائة ريال، فقد تضاعف بعد حين إلى أربعة أضعاف، وها هي " العراوي " اليابانية تقف جديدة وهي تتزين بالدّل والدّلال، لتضرب الأرض عرضا وطولا على أنغام الموسيقى العربيّة.
لقد انتفش جيبي، ولم يعد قادرا على الإحتواء، فكانت الفرشة والوسادة مكانين آمنين ، لأنه لم يكن في ذلك الزمن حراميّة، ولم نكن نعرف الطريق إلى" البنك ". وأظن ان يوم ذاك لم يكن هناك " بنك "، وعلى فرض وجود بنك في إحدى الزوايا فلن أضع فيه ريالا واحدا، لأن جدتي يرحمها الله كانت توصيني: يا وليدي لا تقيّل في ظلة البنك وإن أصابتك ضربة شمس!
ماتت جدتي، فوجدت نفسي بعد حين أقيل وأتبطّح داخل البنك، وأتفيأ ظلاله مع جموع المتظللين، ولم أعبأ بمقولة جدّتي التي لم تواكب العصر، ولم تعرف ما يعنيه عميل وعموله.
وفي عصر الفكّة لم أتذكر أني تصدّقت على أحد، لكني حين ملكت التسعمائة ريال كانت لدي الشجاعة أن أمد يد السخاء، وكنت أشعر بأني قادر على أن أمنح الأمم المتحدة والبنك الدولي دعما للغلابا والمقهورين في هذا العالم، لكني أدركت أنه لا فرق بين أن يموت الانسان جائعا أو شبعانا تحت وابل قصف المدافع والصواريخ وعلى زغاريد الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وأن البنك الدولي لا يقدم قرضا إلا بشروط تنتف ريش الفقير . ولأن لديّ قضية ورثتها عن أبي وجدي، فلا بد وأن يذهب العطاء في سبيل تلك القضية، فتبرعت من أجل القضية، ولم أدرك أنه سيأتي يوم يشيّد فيه صاحب القضية قصرا على رأس تلة بملايين الدولارات وأكبر حجما من البيت الأبيض، فعلمت بعد أن طال بي الأمد، أنّ هيك قضيّة، بدها هيك قصر !
كنت في تلك الفترة المبكرة أعيش عصر الطفرة، وكان الأجدر أن تكون لدي رؤية مستقبلية، وأن أستغل تلك الطفرة في البنية التحتية. لكن تلك الطفرة ذهبت في البهرجة، فوجدت نفسي ذات يوم على حافة رصيف بنك التسليف من أجل الحصول على شريكة العمر، لأجد نفسي وإياها نحمل أثقالنا من بيت إلى بيت في رحلة أشبه بالرحلات الغجريّة، والأمل يحدونا أن نحط رحالنا في مسكن دائم، فكان الأمل معقودا في البنك العقاري. وبعد طول انتظار وجدنا أنفسنا في بيت العمر الذي تضاعف فيه عدد " الضعوف " وتضاعفت فيه متطلباتهم، فتضاعفت الديون، ولم تعد ميزانية الراتب تغطي الاحتياجات، فأصيب الراتب بالانشطار الذّريّ، حتى أنني أصبحت أبحث في حصّالات الضعوف وهم لاهون في اللعب على المرجيحة. وإذا كان الناس قديما يقولون بأن الفلوس وسخ دنيا، فإن الدنيا أصبحت اليوم وسخ الفلوس.
والسلام
ما زلت أتذكر بقلب ينبض بالحياة وذاكرة فوتوغرافية أول راتب أحصل عليه بعد " عصر الفكّة " إنه لم يتجاوز التسعمائة ريال، وكنت سعيدا بذلك المبلغ ، فطرت به إلى حيث تطير الفلوس.
أستطيع الآن أن أجلس بجوار العم " صالح " وأطلب بكل ثقة كرتون عصير " أبو ثلاث جواهر " بدلا من تلك الحبّة التي كان يباشر عليّ بها حين كنت أزوره في متجره بين وقت وآخر . أريد أن أستمتع بحلاوة طعم الدنيا وأعوّض السنين التي خلت بدون فواكه، تلك السنين التي لم يكتشف فيها مختبر جدّتي أي نقص، لا في فيتامين سي، ولا دي!
نظر إليّ العم صالح وقال وهو يبتسم: كرتون!. لم يصدق أنني جاد في إبرام تلك الصفقة إلا حين دفعت له الثمن. وكم كنت مزهوا حين كنت أطوف السوق بنظارة سوداء وساعة سويسرية وجزمة إيطالية. لقد حمل هيكلي العظمي النحيل في ذلك اليوم الأغر أشهر الماركات العالمية، وكنت أشعر أني بحاجة إلى تلسكوب فلكي لكي أحدد مكان هبوطي بعد حين على كوكب المريخ!
في ذلك الزمن كانوا يقولون لنا بأن الفلوس وسخ دنيا " آآآه ". وحين رأيت ما أحدثته تلك الفلوس لم أعد أصدق بتلك النظرية، فأتبعت نفسي هواها.
كانت أمنيتي في عصر الفكّة أن أشتري" سيكل" تلك الأمنية التي عجزت كل الفكّات أن تفكّ تعقيداتها، وها أنا اليوم أستطيع أن أشتري قطيعا من السياكل، لكن العالم من حولي تغيّر، ولم يعد السيكل الأمنية المثلى في عصر " العراوي " .
كانت تلك التسعمائة ريال كفيلة بأن تحدث هزّة في السوق، هكذا كنت أشعر، وأن المائة ريال تجعلك تخرج منه بحمل بعير!
لم يتوقف الراتب عند حد التسعمائة ريال، فقد تضاعف بعد حين إلى أربعة أضعاف، وها هي " العراوي " اليابانية تقف جديدة وهي تتزين بالدّل والدّلال، لتضرب الأرض عرضا وطولا على أنغام الموسيقى العربيّة.
لقد انتفش جيبي، ولم يعد قادرا على الإحتواء، فكانت الفرشة والوسادة مكانين آمنين ، لأنه لم يكن في ذلك الزمن حراميّة، ولم نكن نعرف الطريق إلى" البنك ". وأظن ان يوم ذاك لم يكن هناك " بنك "، وعلى فرض وجود بنك في إحدى الزوايا فلن أضع فيه ريالا واحدا، لأن جدتي يرحمها الله كانت توصيني: يا وليدي لا تقيّل في ظلة البنك وإن أصابتك ضربة شمس!
ماتت جدتي، فوجدت نفسي بعد حين أقيل وأتبطّح داخل البنك، وأتفيأ ظلاله مع جموع المتظللين، ولم أعبأ بمقولة جدّتي التي لم تواكب العصر، ولم تعرف ما يعنيه عميل وعموله.
وفي عصر الفكّة لم أتذكر أني تصدّقت على أحد، لكني حين ملكت التسعمائة ريال كانت لدي الشجاعة أن أمد يد السخاء، وكنت أشعر بأني قادر على أن أمنح الأمم المتحدة والبنك الدولي دعما للغلابا والمقهورين في هذا العالم، لكني أدركت أنه لا فرق بين أن يموت الانسان جائعا أو شبعانا تحت وابل قصف المدافع والصواريخ وعلى زغاريد الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وأن البنك الدولي لا يقدم قرضا إلا بشروط تنتف ريش الفقير . ولأن لديّ قضية ورثتها عن أبي وجدي، فلا بد وأن يذهب العطاء في سبيل تلك القضية، فتبرعت من أجل القضية، ولم أدرك أنه سيأتي يوم يشيّد فيه صاحب القضية قصرا على رأس تلة بملايين الدولارات وأكبر حجما من البيت الأبيض، فعلمت بعد أن طال بي الأمد، أنّ هيك قضيّة، بدها هيك قصر !
كنت في تلك الفترة المبكرة أعيش عصر الطفرة، وكان الأجدر أن تكون لدي رؤية مستقبلية، وأن أستغل تلك الطفرة في البنية التحتية. لكن تلك الطفرة ذهبت في البهرجة، فوجدت نفسي ذات يوم على حافة رصيف بنك التسليف من أجل الحصول على شريكة العمر، لأجد نفسي وإياها نحمل أثقالنا من بيت إلى بيت في رحلة أشبه بالرحلات الغجريّة، والأمل يحدونا أن نحط رحالنا في مسكن دائم، فكان الأمل معقودا في البنك العقاري. وبعد طول انتظار وجدنا أنفسنا في بيت العمر الذي تضاعف فيه عدد " الضعوف " وتضاعفت فيه متطلباتهم، فتضاعفت الديون، ولم تعد ميزانية الراتب تغطي الاحتياجات، فأصيب الراتب بالانشطار الذّريّ، حتى أنني أصبحت أبحث في حصّالات الضعوف وهم لاهون في اللعب على المرجيحة. وإذا كان الناس قديما يقولون بأن الفلوس وسخ دنيا، فإن الدنيا أصبحت اليوم وسخ الفلوس.
والسلام