×

اضغط هنا إن لم يقم المتصفح بتحويلك آليًا.
شتيوي العطوي

زمن "الفكّة"!
شتيوي العطوي

أهلا بكم من جديد، وتحية وتقدير لجميع الأخوة والأخوات القراء
وبعد:
تبدو لي كتابة شيء ما في العمق هذه الأيام فكرة عبثيّة، لأسباب يصعب ذكرها، ومع ذلك سأكتب بعيدا عن العمق!
وهنا سأكتب عن زمن " الفكّة " وحين يخطر ببالي ذلك الزمن،أتذكر رأس أمي يرحمها الله. فبعد أن حططنا رحالنا واقتربنا قليلا من صوت القرى أصبح للفكّة طعم خاص . فكانت أمي تضع الفكة في عصابة رأسها، وكنت كلما اشتاقت نفسي لطعم الحلاوة تسحب من عصابتها تلك الفكّة التي تشعرني بحلاوة الدنيا، وتجعلني أمتطي صهوة الريح حافيا إلى ذلك التاجر الذي تفوح من دكانه رائحة القطران، ولا تخضع بضاعته لتاريخ الصلاحيّة.

لم تكن الفكّة وحدها التي تشغل حيزا في عصابة أمّي، فهناك أشياء أخرى كانت تزيّن تلك العصابة، هناك الإبرة والميبرة ( المسلّة ) والمخاط والمشبك،كل تلك الأشياء وأكثر كنت أراها في عصابة أمي، لقد حمل رأسها الكثير من الأشياء، حيث كانت تعيش عصر الفكة، ولم يطل بها العمر لتعيش عصر " الموضة "

في زمن الفكة كان للأشياء طعم ولذة، لأن تلك الأشياء لا تأتي بيسر في كل وقت، لذلك كنا نحتفل بها.

آه، لقد ماتت أمي يرحمها الله وبقي شيء من الفكة في صرّة مخبأة في سفط الوهد.

بقينا زمنا نعيش عصر " الفكة " ولا أحد يتحدث في ذلك الوقت عن مئات أو آلآف ، وفي ذات ليلة كنّا مجتمعين معشر الرفاق في غرفة من الطين، عرشها مرابيع خشب مغطى بصفائح براميل الزّفت. بابها المتجه نحو مطلع الشمس أكله الصدأ، وكذلك حال نافذتها الغربية التي تطل على بيوتات متناثرة أبى الزمان إلا أن يحط أهلها رحالهم فيها بحثا عن حياة أخرى.

كانت تلك الغرفة المضاءة بفانوس صغير بمثابة الصالون الأدبي لشلّة الرفاق الذين لا يعرفون من وسائل الأدب والثقافة غير ألف ليلة وليلة .
هناك كنا نحلم .. كنا نتمنى حيث الأماني بالمجان ، فأي أحلام وأي أماني ستخرج من غرفة أرضيتها تراب وسقفها ينقط بالزفت وقت القيظ ؟. كنا سعداء حيث كانت الدنيا من حولنا سعيدة .. هكذا كنا نرى ونشعر .. نضحك بملىء أشداقنا حتى إراقة الدموع . وكان من عادتنا أن يأتي كل واحد منا بما تجود به نفسه من طعام . وكان أجودنا الرفيق عطاالله حيث كانت أمه ميسورة الحال، ومن عادته أن يأتينا في بعض ليالي الجمع بعلبة لحمة الخروف صدقة منه عن روح أبيه، فقال له أحد الرفاق ذات ليلة وهو يقلقل اللّحمة : متى تلحق أمك بأبيك لنظفر بعلبتين من لحمة الخروف ؟ فضحكنا الليل كله!

وفي إحدى ليالي المربعانية كنا متحلقين معشر الرفاق حول الدافور . وكنا نتجاذب أطراف الحديث حيث الأماني يعلوها سقف من الزّفت . لكن أحد الرفاق اخترق حاجزي الزفت والخشب، فأقسم وهو يغمس لقمته في كأس الشاي بأنه سيصبح مليونير ! فعمّت الدهشة وجوه الرفاق، لأنه لم يأت ذكر للفلوس في تلك الليلة المتجمدة، ولا حتى في ليالي الصيف التي تتمغط فيها أحلامنا . بعدها تعالت قهقهات الرفاق سخرية من حلم مستحيل، فقال له عطاالله وهو يتلحف بمعطف أمه التي تفوح منها رائحة الشيح والقيصوم : مليونير!

في تلك الفترة لم يكن أحد يتحدث عن ملايين، وكان الحديث يدور حول الفكّة التي تشعرنا بسعادة الدنيا .. إنها دراهم معدودة في صرّة بالية محفوظة في سفط الوهد . وكانت أسعد الأيام عندي ذلك اليوم الذي يأتي فيه عمي الذي لم يطربه صوت القرى فبقي وفيّا لحياة البدو بين هضاب حمر وغرابيب سود. فكنت أشعر بفرحتين : فرحة بلقاء عمي وفرحة بذلك الوعاء الجلدي الصّفن المختبىء تحت معطفه، فكنت أقبّله وعيني على تلك السلسلة الفضية التي تتدلى من تحت معطفه، فأطمئن بأني سأحظى بشيء من تلك الفكّة التي يحويها ذلك الصّفن.

دارت بنا الأيام وتفرق الرفاق، وبقيت تلك الغرفة شاهدة على عصر " الفكة". تركناها وسقفها يدلف مطرا يروي ذكريات وأماني وأحلام طوال عراض، ومشينا كل في طريق، مودعين عصر " الفكّة "وراحلين إلى عصر " التريليون ". العصر الذي أصبح فيه التعساء والبؤساء والجياع - في هذا العالم - أضعاف عصر " الفكّة "

لقد تحقق حلم صاحبنا، وأصبح بعد حين فعلا " مليونير "، لكنه لم يزل يتذكر تلك الغرفة وتلك الأيام والليالي الحسان، فيحن وجدا ويقول: عمار يا عصر " الفكّة "!

كانت تلك ليلة من " ليالي دمج "
والسلام
بواسطة : شتيوي العطوي
 9  0