في الظهيرة رأيت طلحات خضراء رغيدات في شعب منعزل عن البشرية فقلت: أمضي القيلولة فيه ، ولعلي أجد الراعية العابدة في الطلحات ؛ فلما اقتربت رأيت معالم الغنيمات ، فرأيت الغنيمات متقاربات وإذا بالراعية تنهض واقفة ، فسلمت وأنزلت صندوق عزبتي ، وهي تتعجب من جهاز الغاز وإشعاله وأصلحت الشاي وطلبت الإكثار من السكر .
وقلت: لعلك تحفظين أواني جيدة.
قالت: إني معي قُديراً صغيراً أطبخ فيه وأعمل الشاي ، وأغلى فيه اللبن وأضع عليه الشيح أو الجعدة.
قلت: الا تنتهي وسائل إشعال النار .
قالت: إذا كنت في مكان متقارب فإني أقتبس جمرة أو شهابا أو أحرث عن جذوة ؛ قد طمرتُها بالتراب والرماد ؛ فإذا تقاصى بي المكان فمعي الزند ولا أحتاج لمثل ما معك (كبريت) فلما حان وقت الصلاة قمت أصلي قصراً وجمعاً ، وهي أتمت صلاتها ؛ وقد طال أنتظار عودتها من الصلاة حتى أني نمت وصحوت وهي لم تعد فطوبى للغرباء.
فقلت: مكثتِ طويلاً.
قالت: الصلاة حياتي وسعادتي وأنسي أفلا أحب: أن أُناجي ربي.
فقلت: أنت تعرفين المبني الحجري الذي نراه؟
قالت: ومن لم يعرف قلعة المعظم وبركته كم أتتت عليها من قوافل الحج وكم من الصالحين من أستقى منها وتعبد عليها .
قلت: تحدثتي في جلسة سابقة عن المآسي عليه ، لكني ثار في نفسي سؤال هو : هل أديتي فريضة الحج؟
قالت: كثير.
قلت: كيف تقطعين الفيافي؟
قالت: أقترب من نزل ، وأصادقهم على الآبار ولا سيما عند العطين فأتعارف عليهم ، ثم أقترب منهم وأجاورهم حتى إذا أقترب زمن الحج وسمعت الاستعداد للمسير له ، وأخذ رجال الحي ونساؤهم يمنون أنفسهم بالحج وتظهر عليهم اللهفة والرغبة للحج ، ثم يعدون ركائبهم ، وقِربهم ، وأزوادهم ، ويمتطون أبلهم في مجموعات متقاربة ، ثم حاولت أن أقترب من النساء الحاجات فبعضهن ترحب وتعطف وتوصى حتى بأغنامي ، فيكون الوداع بالدموع والدعاء ومشهد الفراق الذي يختلط به الخوف والحب الذي يدفع للحج ، ثم يمتطون أبلهم ويغذون السير أياما وليالي وترى القافلة فيها الذين يعلون المطايا وآخرون وأخريات يسيرون خلف المطايا والنشاط يدفعهم .
قلت: وأنت المعمرة.
قالت: انا أكاد أطير لممارستي فوق الجبال ، والسير طوال اليوم مع أغنامي .
قلت: الا تركبين تارة معهم؟
قالت: بلى والله يؤثروني على أنفسهم رجالا ونساء ، ولكن مع امتداد السفر كدنا نتعارف متى نركب ومتى نسير.
قلت: كيف تتغذون؟
قالت: على خبز النار مرة واحدة في اليوم ، وقليل ما يظهر به السمن لقلته وتدبيرة ، وتارة يصيدون صيدا ، فتلك النعماء ورغيد العيش .
قلت: الا تتعرضون لمصاعب ومخاطر في الطريق؟
قالت: كلها لا بدّ منها وأهمها تباعد المياه ، فالعطش والجوع ، وتارة لا نجد الآبار التي يعرفونها ، إما ناضبة أو تاه الدليل عنها: وأنتَ لو رأيتَ جفاف الشفاه وبياضها من الظمأ لشفقت على النساء اللائي تزيق أبصارهن وأقدامهن عن الطريق ، ولكن الله أرحم ، فهذا الابتلاء له أجره عند الله فهم يحتسبون ويصبرون .
قلت: فماذا غير العطش ؟
قالت: أصعب منه الفتك والقطع ومداهمه الفتاك، وهم يترصدون على مضايق الطريق ، ولقد قتل الفتاك ابن صاحبتي ، وبكل كلفة حملوها من قبره ، وهي تصرخ وتطلب البقاء بجانبه وكنت أحفها بالخدمة والتسلية حتى أنني أنام إذا نامت وأستيقظ معها ولله الحمد .
قلت: أعرف أن رحلة الحج رحلة الموت ، ولكن الناس يخاطرون طلبا للآجر وبعضهم يتمنى الموت في جوار الحرمين لكن هل هناك آمن داخل المدينة المنورة ، ومكة المكرمة في تلك الأزمان ، أما الوافدون بقوافلهم من كل حدب وصوب لا يُخشى منهم ، ولكن الرعب من حملات الدول: فهم يتحاربون من أجل الولاء ، ويحدثون الهرج والقتل والنهب حتى لأرباب القوافل المسالمين .
قلت: هل تعرضتم لشيء من ذلك؟
قالت: حدثت معركة في اليوم الثاني رأينا القتلى متناثرين وأصابنا الرعب وحاولنا الانعزال ، ولكن داهمتنا فرقة ، فخطفت وقتلت منها عشرة أنفار ، فكانت المأساة الكبرى التي جعلت وجوه الرجال مظلمة مكفهرة ، ودموع النساء جارية والأنين متواصل إن تلك الرحلة كلها مشاهد مرعبة اشغلتنا عن الخشوع والعبادة ، فالخوف تبض به القلوب وترتجف له الأعضاء.
وأكبر مأساة رأيتها عند النزل وشاع أخبار المقتولين والمفقودين وأقرباء المقتولين تسمع عندهم الصراخ والصياح بين النساء والأطفال وسكوت المتقدمين في السن. أما رجال الحي العقلاء فأنهم يواسون هذا وينتقلون إلى آخر ، ويحاولون تهدئة النساء المثكولات حتى المراهقين الذين يهمون بالانتحار.
قالت: ها أنت تذرف الدموع لنقل الخبز ؛ فكيف بمن عايشها فهم أخذوا يبكون لذكرها طـــــــوال حياتهم.
بقلم: الأستاذ الدكتور
مسعد بن عيد العطوي
وقلت: لعلك تحفظين أواني جيدة.
قالت: إني معي قُديراً صغيراً أطبخ فيه وأعمل الشاي ، وأغلى فيه اللبن وأضع عليه الشيح أو الجعدة.
قلت: الا تنتهي وسائل إشعال النار .
قالت: إذا كنت في مكان متقارب فإني أقتبس جمرة أو شهابا أو أحرث عن جذوة ؛ قد طمرتُها بالتراب والرماد ؛ فإذا تقاصى بي المكان فمعي الزند ولا أحتاج لمثل ما معك (كبريت) فلما حان وقت الصلاة قمت أصلي قصراً وجمعاً ، وهي أتمت صلاتها ؛ وقد طال أنتظار عودتها من الصلاة حتى أني نمت وصحوت وهي لم تعد فطوبى للغرباء.
فقلت: مكثتِ طويلاً.
قالت: الصلاة حياتي وسعادتي وأنسي أفلا أحب: أن أُناجي ربي.
فقلت: أنت تعرفين المبني الحجري الذي نراه؟
قالت: ومن لم يعرف قلعة المعظم وبركته كم أتتت عليها من قوافل الحج وكم من الصالحين من أستقى منها وتعبد عليها .
قلت: تحدثتي في جلسة سابقة عن المآسي عليه ، لكني ثار في نفسي سؤال هو : هل أديتي فريضة الحج؟
قالت: كثير.
قلت: كيف تقطعين الفيافي؟
قالت: أقترب من نزل ، وأصادقهم على الآبار ولا سيما عند العطين فأتعارف عليهم ، ثم أقترب منهم وأجاورهم حتى إذا أقترب زمن الحج وسمعت الاستعداد للمسير له ، وأخذ رجال الحي ونساؤهم يمنون أنفسهم بالحج وتظهر عليهم اللهفة والرغبة للحج ، ثم يعدون ركائبهم ، وقِربهم ، وأزوادهم ، ويمتطون أبلهم في مجموعات متقاربة ، ثم حاولت أن أقترب من النساء الحاجات فبعضهن ترحب وتعطف وتوصى حتى بأغنامي ، فيكون الوداع بالدموع والدعاء ومشهد الفراق الذي يختلط به الخوف والحب الذي يدفع للحج ، ثم يمتطون أبلهم ويغذون السير أياما وليالي وترى القافلة فيها الذين يعلون المطايا وآخرون وأخريات يسيرون خلف المطايا والنشاط يدفعهم .
قلت: وأنت المعمرة.
قالت: انا أكاد أطير لممارستي فوق الجبال ، والسير طوال اليوم مع أغنامي .
قلت: الا تركبين تارة معهم؟
قالت: بلى والله يؤثروني على أنفسهم رجالا ونساء ، ولكن مع امتداد السفر كدنا نتعارف متى نركب ومتى نسير.
قلت: كيف تتغذون؟
قالت: على خبز النار مرة واحدة في اليوم ، وقليل ما يظهر به السمن لقلته وتدبيرة ، وتارة يصيدون صيدا ، فتلك النعماء ورغيد العيش .
قلت: الا تتعرضون لمصاعب ومخاطر في الطريق؟
قالت: كلها لا بدّ منها وأهمها تباعد المياه ، فالعطش والجوع ، وتارة لا نجد الآبار التي يعرفونها ، إما ناضبة أو تاه الدليل عنها: وأنتَ لو رأيتَ جفاف الشفاه وبياضها من الظمأ لشفقت على النساء اللائي تزيق أبصارهن وأقدامهن عن الطريق ، ولكن الله أرحم ، فهذا الابتلاء له أجره عند الله فهم يحتسبون ويصبرون .
قلت: فماذا غير العطش ؟
قالت: أصعب منه الفتك والقطع ومداهمه الفتاك، وهم يترصدون على مضايق الطريق ، ولقد قتل الفتاك ابن صاحبتي ، وبكل كلفة حملوها من قبره ، وهي تصرخ وتطلب البقاء بجانبه وكنت أحفها بالخدمة والتسلية حتى أنني أنام إذا نامت وأستيقظ معها ولله الحمد .
قلت: أعرف أن رحلة الحج رحلة الموت ، ولكن الناس يخاطرون طلبا للآجر وبعضهم يتمنى الموت في جوار الحرمين لكن هل هناك آمن داخل المدينة المنورة ، ومكة المكرمة في تلك الأزمان ، أما الوافدون بقوافلهم من كل حدب وصوب لا يُخشى منهم ، ولكن الرعب من حملات الدول: فهم يتحاربون من أجل الولاء ، ويحدثون الهرج والقتل والنهب حتى لأرباب القوافل المسالمين .
قلت: هل تعرضتم لشيء من ذلك؟
قالت: حدثت معركة في اليوم الثاني رأينا القتلى متناثرين وأصابنا الرعب وحاولنا الانعزال ، ولكن داهمتنا فرقة ، فخطفت وقتلت منها عشرة أنفار ، فكانت المأساة الكبرى التي جعلت وجوه الرجال مظلمة مكفهرة ، ودموع النساء جارية والأنين متواصل إن تلك الرحلة كلها مشاهد مرعبة اشغلتنا عن الخشوع والعبادة ، فالخوف تبض به القلوب وترتجف له الأعضاء.
وأكبر مأساة رأيتها عند النزل وشاع أخبار المقتولين والمفقودين وأقرباء المقتولين تسمع عندهم الصراخ والصياح بين النساء والأطفال وسكوت المتقدمين في السن. أما رجال الحي العقلاء فأنهم يواسون هذا وينتقلون إلى آخر ، ويحاولون تهدئة النساء المثكولات حتى المراهقين الذين يهمون بالانتحار.
قالت: ها أنت تذرف الدموع لنقل الخبز ؛ فكيف بمن عايشها فهم أخذوا يبكون لذكرها طـــــــوال حياتهم.
بقلم: الأستاذ الدكتور
مسعد بن عيد العطوي