الراعية المريضة
لم ابتعد كثيرا عن الراعية، فنزلت بالسفح، ورقدت بالسيارة، ولا أنكر الخوف الذي اعتراني، وفي الصباح التقيت بها قريباً من مباتي، فسلمت عليها.
وقالت: يا بدوياً قديماً، وحضرياً حديثاً؛ كيف كانت ليلتك؟
قلت: لا تخلو من أصوات لها صفير.
قالت: هذه الرياح تصطدم بسيارتك.
قلت: أعانك الله على الغربة الطويلة.
قالت: (طوبى للغرباء) ولولا ذلك لأظلمت عليّ الدنيا ولأمتلئت رعبا، فلما توكلت على ربي وطال تأملي أطمئننتُ، فلا أبالي بالخلوة والإنفراد، وربما أمكث سنة كاملة لا أحادث أحداً، بل أعشق الخلوة تلو الخلوة، ومما زادني حبّا للخلوة غرابتي عند كل من حادثته.
قلت: مرت عليك سنين طويلة: ألم تمرضي؟
قالت: بلى: إنها مواقف كثيرة، ولكن أحكي قصة مرضية قريبة العهد قبل خمسين سنة، أصابني مرض، فأدركت أنها النهاية، فاقتربتُ من نزل والأحوال ضعيفة، والصقيع يسرى في العظام، والأمراض الشتوية منتشرة، وفتكت بالكثير، فمرّ بي رجل؛ وأنا قابعة أرتجف من البرد، واعتراني سعال شديد، وضيق في التنفس، فحمدت الله أن هذا الرجل سيحفر لي قبرا، فوقف عندي وأمري ليس بمستغرب لكثرة المجاعات، والأرامل الفقيرات، ثم أنحرف.
فقلت: إن هذا المسكين البأس لا قدرة له على شيء حتى حفر قبري، ولكنه لم يلبث طويلا حتى آتاني بغذاء ساخن.
ثم قال: لو إنكِ تجيئين إلى النزل، فذاك بيتي .
فقلت له: إنني هنا، ثم ولى الرجل، وإذا به يأتي صباحاً، فأتى بأكل وبعض الأدوية الشجرية، وهكذا حتى خف المرض بفضل الله، ثم اقتربت من الحي، وأبيت بشويهاتي بجوانب بيوت الشعر، ووسط الأغنام، وفي ليلة ماطرة؛ فإذا امرأة تئنُ، ثم صرخ الطفل المولود، فأتيتها وساعدتها، ولكن لا طعام عندها ولا عندي، حتى أدركت أنها فانية هي وطفلها، فإذا برجل ينادي هل ولدت حمدة.
قلت: نعم، فصمت؛ ثم لم يلبث طويلا حتى آتى بتميرات، وأخرى معصورات في ماء، فشربت المرأة، ودبت فيها الحياة، وأرضعت طفلها، وقد تعهدها بالغداء.
فقلت لها: من هذا؟
قالت: إنه رجل مسكين فيه غباء حتى لا يدرك العدد، لكنه يطعم الضيف، والنفساء، والضعفاء.
فقلت: من أين هذه الأغذية؟
قال: هو أكثر النزل أغناما.
وقالت: بارك الله له فيهن على قدر نيته وليس اجتهادا منه، وخلال مكثي عند النزل أرى الرجل يكرم الأضياف، والضيفات، ويطعم كبار السن؛ فكأنه خادم عند النزل، ثم أحيا الله الأرض، فنبت الشجر، ودرّ الضرع، وفى تلك المرحلة الزمنية من الزمن يستعدون لجلب الحبوب من الشام يعملون لثلاثة أشهر، فيعودون بالقوافل وإذا بفرقة محاربة، تداهمهم وتفتك بهم، وهم في طريق العودة، فكثر القتلى والجرحى، وهو قد أصيب إصابة بالغة وفقد الوعي، ولكنه صحى بعد فترة ففكر، فإذا كهف صغير بجانب الطريق.
قال: فجررت نفسي ودمائي تنزف على الأرض، ودخلت كهفاً صغيرا، وفقدت الوعي وذات يوما مرّ صاحب مطية.
فقالت: امرأته الرديفة له: إن في الكهف قماشا يتحرك، فظنوا أنه من آثار المعركة التي سمعوا عنها، فأقبل عليه الرجل، وفزع وكاد يولي هاربا، ولكنه عاد مرة أخرى فلمسه، وإذا به حرارة ومسك يده، فإذا هي تنبض، فأخذ يعالجه؛ ثم أركبه معه للأردن، وأستمر يعالجه هو وامرأته حتى تعافى وهي مدة تجاوزت ستة أشهر، ثم انطلق المريض إلى دياره، فكانت فرحة المساكين، وعدم مبالاة الآخرين، فيسخرون منه، ويسألونه، كم يوما لبثت؟
قال: والله لست ادري لكنها أكثر من عشرين يوما دخلت الكهف، والهلال غربا ولما حملني الرجل، فإذا القمر في كبد السماء.
قالوا: أتحس في هذه المدة؟
قال: والله إني مرتاح البال عندي مائدة من كل الأطعمة التي أعرفها، وأخذ النزل يتداول هذه القصة حتى عرفها الداني، والقاصي؛ فسبحان الله اللطيف الرحيم الرزّاق.
لم ابتعد كثيرا عن الراعية، فنزلت بالسفح، ورقدت بالسيارة، ولا أنكر الخوف الذي اعتراني، وفي الصباح التقيت بها قريباً من مباتي، فسلمت عليها.
وقالت: يا بدوياً قديماً، وحضرياً حديثاً؛ كيف كانت ليلتك؟
قلت: لا تخلو من أصوات لها صفير.
قالت: هذه الرياح تصطدم بسيارتك.
قلت: أعانك الله على الغربة الطويلة.
قالت: (طوبى للغرباء) ولولا ذلك لأظلمت عليّ الدنيا ولأمتلئت رعبا، فلما توكلت على ربي وطال تأملي أطمئننتُ، فلا أبالي بالخلوة والإنفراد، وربما أمكث سنة كاملة لا أحادث أحداً، بل أعشق الخلوة تلو الخلوة، ومما زادني حبّا للخلوة غرابتي عند كل من حادثته.
قلت: مرت عليك سنين طويلة: ألم تمرضي؟
قالت: بلى: إنها مواقف كثيرة، ولكن أحكي قصة مرضية قريبة العهد قبل خمسين سنة، أصابني مرض، فأدركت أنها النهاية، فاقتربتُ من نزل والأحوال ضعيفة، والصقيع يسرى في العظام، والأمراض الشتوية منتشرة، وفتكت بالكثير، فمرّ بي رجل؛ وأنا قابعة أرتجف من البرد، واعتراني سعال شديد، وضيق في التنفس، فحمدت الله أن هذا الرجل سيحفر لي قبرا، فوقف عندي وأمري ليس بمستغرب لكثرة المجاعات، والأرامل الفقيرات، ثم أنحرف.
فقلت: إن هذا المسكين البأس لا قدرة له على شيء حتى حفر قبري، ولكنه لم يلبث طويلا حتى آتاني بغذاء ساخن.
ثم قال: لو إنكِ تجيئين إلى النزل، فذاك بيتي .
فقلت له: إنني هنا، ثم ولى الرجل، وإذا به يأتي صباحاً، فأتى بأكل وبعض الأدوية الشجرية، وهكذا حتى خف المرض بفضل الله، ثم اقتربت من الحي، وأبيت بشويهاتي بجوانب بيوت الشعر، ووسط الأغنام، وفي ليلة ماطرة؛ فإذا امرأة تئنُ، ثم صرخ الطفل المولود، فأتيتها وساعدتها، ولكن لا طعام عندها ولا عندي، حتى أدركت أنها فانية هي وطفلها، فإذا برجل ينادي هل ولدت حمدة.
قلت: نعم، فصمت؛ ثم لم يلبث طويلا حتى آتى بتميرات، وأخرى معصورات في ماء، فشربت المرأة، ودبت فيها الحياة، وأرضعت طفلها، وقد تعهدها بالغداء.
فقلت لها: من هذا؟
قالت: إنه رجل مسكين فيه غباء حتى لا يدرك العدد، لكنه يطعم الضيف، والنفساء، والضعفاء.
فقلت: من أين هذه الأغذية؟
قال: هو أكثر النزل أغناما.
وقالت: بارك الله له فيهن على قدر نيته وليس اجتهادا منه، وخلال مكثي عند النزل أرى الرجل يكرم الأضياف، والضيفات، ويطعم كبار السن؛ فكأنه خادم عند النزل، ثم أحيا الله الأرض، فنبت الشجر، ودرّ الضرع، وفى تلك المرحلة الزمنية من الزمن يستعدون لجلب الحبوب من الشام يعملون لثلاثة أشهر، فيعودون بالقوافل وإذا بفرقة محاربة، تداهمهم وتفتك بهم، وهم في طريق العودة، فكثر القتلى والجرحى، وهو قد أصيب إصابة بالغة وفقد الوعي، ولكنه صحى بعد فترة ففكر، فإذا كهف صغير بجانب الطريق.
قال: فجررت نفسي ودمائي تنزف على الأرض، ودخلت كهفاً صغيرا، وفقدت الوعي وذات يوما مرّ صاحب مطية.
فقالت: امرأته الرديفة له: إن في الكهف قماشا يتحرك، فظنوا أنه من آثار المعركة التي سمعوا عنها، فأقبل عليه الرجل، وفزع وكاد يولي هاربا، ولكنه عاد مرة أخرى فلمسه، وإذا به حرارة ومسك يده، فإذا هي تنبض، فأخذ يعالجه؛ ثم أركبه معه للأردن، وأستمر يعالجه هو وامرأته حتى تعافى وهي مدة تجاوزت ستة أشهر، ثم انطلق المريض إلى دياره، فكانت فرحة المساكين، وعدم مبالاة الآخرين، فيسخرون منه، ويسألونه، كم يوما لبثت؟
قال: والله لست ادري لكنها أكثر من عشرين يوما دخلت الكهف، والهلال غربا ولما حملني الرجل، فإذا القمر في كبد السماء.
قالوا: أتحس في هذه المدة؟
قال: والله إني مرتاح البال عندي مائدة من كل الأطعمة التي أعرفها، وأخذ النزل يتداول هذه القصة حتى عرفها الداني، والقاصي؛ فسبحان الله اللطيف الرحيم الرزّاق.