وترحل!
جئت يا ولدي في زمن أوجاعي، جئت في فصل الخريف الذي تساقطت فيه كل أحلامي، ولم أكن أعلم أنك سترحل قبل الربيع. جئت من عالم الغيب لكي أحملك على كتفي، وأضعك في حجري، وأناغيك، لكنك لم تجد شيئا من ذلك. كنت هناك مطروحا في المهد ترفع ذراعيك الصغيرتين عاليا لكي أرفعك إلى قلبي، وكنت تتوسّل القبلة-على خدك- منّي، لكني لن أفعل، سأبخل بكل حنان، لا أريد أن أتعلّق بك، وليس ذلك قسوة في قلبي المحطّم من قبل أن تأتي أنت. فقط، سألوّح لك بيدي من بعيد، تلك الإشارة التي توحي لك ولكل من حولك بأني سعيد.
لقد جئت في زمن الحزن يا ولدي، الحزن المدّمر لجمال الحياة، ولا وقت لديّ للفرح حتى بقدومك. كنت أتمنى أن ترحل مبكرا عن هذه الدنيا قبل أن تعرف عنها أي شيء، قبل أن تعرف الحقد، قبل أن تعرف الحسد، قبل أن تعرف معنى المؤامرة. كنت أريدك أن تذهب نقيا، عصفورا يحلق في جنة الخلد، لكنك بقيت صورة أمامي، فيزيدني الخوف عليك ألما، حتى إذا بلغت الرشد كنت كأنا. أنا الذي عشقت الحياة قبلك، ودخلت بين أضراسها، فمضغتني ولفظتني كلقمة غير مستساغة الطعم، فوجدت نفسي على حافة الرصيف، أنظر بعين الحزن لكل العابرين . وأسأل نفسي إن كانوا سعداء . صوت أمي القادم من القاع الصفصف ذات نجعة يناديني : إلحق ! . لا بأس أن أمتطي شوارع المدينة الخالية ليلا أبحث عن مخرج، وأبث لذلك السواد " الإسفلت " عوالق قلبي، ثم أعود إليك وأغلق الباب عليك لكي لا تراني حين أخرج إلى تلك النباه " التلة " لأجلس على ظهرها أراقب الكلاب التي تجاورني وهي تمارس الفرح في الخلاء.
كنت أنت مشغولا بأوراقك، وبدنيا تظنها سترقص لك طويلا، وقد يحالفك الحظ وتكون فيها سعيدا. لا شيء يشبهني في هذه الدنيا سواك، حتى أني قلت لك ذات مرة: لا تقل يا أبي، بل قل " يا أنا " فضحكت أنت ساعتها، وحزنت أنا، لأني أعرف من أنا.
آه لقد كبرت يا ولدي، ولم أشعر بتلك السنين التي مضت، لأني لم أكن أشعر بنفسي، ولا بكل الذين من حولك وهم يباركون لك النجاح وبتقدير ممتاز، فكان أملك الدخول إلى الجامعة، وكان أملي أن تكون طبيبا، لكنك لن تدخل تلك الجامعة التي بجوار بيتك، فعمرك يا ولدي يزيد عن قانونهم أربعة أشهر ! تلك كانت حجتهم البائسة، ولو كان أحد غيرك لغيّروا دستور الجامعة من أجله، لكن هناك بعض الوجوه التي لا تعرف الإنسانية.
كان لا بدّ لك أن تذهب بعيدا، بعيدا يا ولدي. ومع كل نهاية أسبوع أودّعك فيه - وأنت في طريقك إلى جامعة الجوف - أشعر بأنه الوداع الأخير، حتى إذا عدّت عاد أملي من جديد. وفي ذات ليلة، كنت أنت هناك في الجوف، وكنت أنا هنا في غرفتك ذات النوافذ المظللة، وإذا بالحزن يغشاني، وكأني على موعد مع خبر لا يسرّ، فكنت أنت الخبر، وإذا بك في العناية المركزة . آه كم أنت رخيص، وكل الذين يشاركونك هذا المكان البئيس. كنت أهمّ أن أحملك على ظهري وأهرب بك بعيدا عن اللاإنسانية، تلك التي تجعلك تتسوّل الحياة هنا وهناك، تلك الضمائر الميتة، وسترى منهم في رحلتك المأساوية الكثير. كنت أبحث بين الدهاليز عن طريق يخرجك من تلك الغيابة. كان عليّ أن أصرخ وحدي بصوت عال لكي يسمعني من يستطيع. لم تسكن نفسي إلا حين هبطت طائرة الإخلاء الطبي، وعند سلّمها " بكيت غصبا بكيت " وأنا الذي كنت أخفي عورة دموعي حتى عن نفسي، ذلك حين أخبرني الطبيب المرافق للطائرة بأن حالتك لا تسمح بنقلك، لأن الضغط الجوي يشكل خطرا على حياتك، ويجب إعادتك للمستشفى، فرفضت،ولم يوافق الطبيب إلا حين كتبت له تعهدا موقعا بأني أنا المسئول، فإذا كان ولا بد من الموت فإني أحب لك الموت " فوق هام السّحب "، بين السماء والأرض، بعيدا عن اللاإنسانية.
أنا المسئول يا ولدي ؟! وهل أنا طبيب يا ولدي ؟!. معذرة إن كنت أنا الذي قتلك . لن أكتب القصة كاملة يا ولدي، وسأشير إلى طرف منها، فأنا متخصص في علم طبقات الضمير ولا أعرف شيئا عن طبقات الجوّ. ومن الجوّ تنظر الممرضة من النافذة وتصرخ في الطبيب: الإسعاف غير موجود!. كان يجب عليك أن تنتظر في حجرة الطائرة لأكثر من ساعة، والباب مشرع في ليلة من ليالي المربعانية واسطوانة الأكسجين على وشك النفاذ، ليس هذا فحسب، فسيارة الإسعاف التي حضرت لم يكن فيها " نقّالة "، وكان لا بد من أخذ سرير الطائرة وبتعهد على سائق الإسعاف بإرجاعه. ليس هذا فحسب، فهناك عطل في أجهزة سيارة الإسعاف، فكان الممرض المرافق يقوم بعملية التنفس اليدوي. وعند وصولك إلى المستشفى وضعوك في قسم الطوارىء لأكثر من ساعة أيضا، وأنت المنقول أصلا من غرفة عناية مركزة وما زال الممرض هنا يقوم بعملية التنفس اليدوي . وحين حملوك إلى غرفة العناية اكتشفوا أن الخراطيم التي في جوفك ملوثة، وبعد حين توقّف قلبك. آه لقد تعب يا ولدي، وآن له أن يرتاح بعض الوقت . توقف أربعة دقائق قبل أن تصل إليك النجدة من غرفة " السواليف " وهذا لا يبشّر بخير ! ذلك قول الطبيب الذي قام بعملية الإنعاش القلبي .
وفي اليوم الذي كنت فيه على موعد مع الغياب الأبدي، تركتك وذهبت الى طبيب العظام أسأله عن موعد العملية فقال لي : أنت تتحدث عن عملية، وأنا أحدثك عن موت ! يعني لا أمل! . ياله من طبيب ما أوقحه، وأوقح منه ذلك الطبيب الذي دخلت عليه وهو يرمّم جثمانك، وأنا لا أعلم بحالك، ففاجئني قائلا: البقيّة في حياتك !. لا أبقى الله لكم حياة يا زبالة العالم .
ثلاثون ليلة وأنا معك يا ولدي، وها أنذا أودّعك دون أن أنظر إلى وجهك، ودون أن أحثو التراب على جسدك، وكنت أعجب من شجاعة أخيك الصغير وهو يحثو التراب ليواريك . لا أدري إن كان يعرف معنى الموت. لم أبك عليك في تلك الساعة وكم تمنيت أني ملأت قبرك بالدموع . لم تكن قسوة قلب، وأنت تعرف، لكنه الرضا بقضاء الله وقدره .
رحلت أنت وبقيت أنا أنظر إلى صورتك في كل مكان وكل الأشياء التي لا تزول تذكرني بك. أسمك المنقوش على صفحة الجدار . ما زلت أتحاشى الأماكن التي تذكرني بك، حتى غرفتك التي كنت تأوي إليها لم أدخلها، ودفتر مذكراتك الذي ورثته عنك لم أستطع قراءته لهذه الساعة. رحلت دون أن تنطق بكلمة طيلة ثلاثين ليلة. كنت تريد أن تقول لي شيئا، فأحضرت لك لوحة الحروف، عسى أن أعرف منك جملة مفيدة. كنت مصرا على أن أعرف ما يدور في خلدك، ربما أمنية أحققها لك، لكنك غبت يا ولدي قبل الغياب الأخير دون أن تشير برأسك إلى حرف من حروف الهجاء.
لست حزينا عليك الآن يا ولدي، وهذا لا يعني أنّ " فرقاك عيد " لكن العيد أن فارقت أنت هذا العالم الذي لا يستحق أن تعيش فيه لحظة . سأقيم سرادق الفرحة بغيابك في قلبي لأنك رحلت إلى عالم الرحمة، وسأعزف لك في كل ليلة على الرّبابة لحن الخلود .
أه يا ولدي، لقد علمتني أن الموت شيء رائع !
جئت يا ولدي في زمن أوجاعي، جئت في فصل الخريف الذي تساقطت فيه كل أحلامي، ولم أكن أعلم أنك سترحل قبل الربيع. جئت من عالم الغيب لكي أحملك على كتفي، وأضعك في حجري، وأناغيك، لكنك لم تجد شيئا من ذلك. كنت هناك مطروحا في المهد ترفع ذراعيك الصغيرتين عاليا لكي أرفعك إلى قلبي، وكنت تتوسّل القبلة-على خدك- منّي، لكني لن أفعل، سأبخل بكل حنان، لا أريد أن أتعلّق بك، وليس ذلك قسوة في قلبي المحطّم من قبل أن تأتي أنت. فقط، سألوّح لك بيدي من بعيد، تلك الإشارة التي توحي لك ولكل من حولك بأني سعيد.
لقد جئت في زمن الحزن يا ولدي، الحزن المدّمر لجمال الحياة، ولا وقت لديّ للفرح حتى بقدومك. كنت أتمنى أن ترحل مبكرا عن هذه الدنيا قبل أن تعرف عنها أي شيء، قبل أن تعرف الحقد، قبل أن تعرف الحسد، قبل أن تعرف معنى المؤامرة. كنت أريدك أن تذهب نقيا، عصفورا يحلق في جنة الخلد، لكنك بقيت صورة أمامي، فيزيدني الخوف عليك ألما، حتى إذا بلغت الرشد كنت كأنا. أنا الذي عشقت الحياة قبلك، ودخلت بين أضراسها، فمضغتني ولفظتني كلقمة غير مستساغة الطعم، فوجدت نفسي على حافة الرصيف، أنظر بعين الحزن لكل العابرين . وأسأل نفسي إن كانوا سعداء . صوت أمي القادم من القاع الصفصف ذات نجعة يناديني : إلحق ! . لا بأس أن أمتطي شوارع المدينة الخالية ليلا أبحث عن مخرج، وأبث لذلك السواد " الإسفلت " عوالق قلبي، ثم أعود إليك وأغلق الباب عليك لكي لا تراني حين أخرج إلى تلك النباه " التلة " لأجلس على ظهرها أراقب الكلاب التي تجاورني وهي تمارس الفرح في الخلاء.
كنت أنت مشغولا بأوراقك، وبدنيا تظنها سترقص لك طويلا، وقد يحالفك الحظ وتكون فيها سعيدا. لا شيء يشبهني في هذه الدنيا سواك، حتى أني قلت لك ذات مرة: لا تقل يا أبي، بل قل " يا أنا " فضحكت أنت ساعتها، وحزنت أنا، لأني أعرف من أنا.
آه لقد كبرت يا ولدي، ولم أشعر بتلك السنين التي مضت، لأني لم أكن أشعر بنفسي، ولا بكل الذين من حولك وهم يباركون لك النجاح وبتقدير ممتاز، فكان أملك الدخول إلى الجامعة، وكان أملي أن تكون طبيبا، لكنك لن تدخل تلك الجامعة التي بجوار بيتك، فعمرك يا ولدي يزيد عن قانونهم أربعة أشهر ! تلك كانت حجتهم البائسة، ولو كان أحد غيرك لغيّروا دستور الجامعة من أجله، لكن هناك بعض الوجوه التي لا تعرف الإنسانية.
كان لا بدّ لك أن تذهب بعيدا، بعيدا يا ولدي. ومع كل نهاية أسبوع أودّعك فيه - وأنت في طريقك إلى جامعة الجوف - أشعر بأنه الوداع الأخير، حتى إذا عدّت عاد أملي من جديد. وفي ذات ليلة، كنت أنت هناك في الجوف، وكنت أنا هنا في غرفتك ذات النوافذ المظللة، وإذا بالحزن يغشاني، وكأني على موعد مع خبر لا يسرّ، فكنت أنت الخبر، وإذا بك في العناية المركزة . آه كم أنت رخيص، وكل الذين يشاركونك هذا المكان البئيس. كنت أهمّ أن أحملك على ظهري وأهرب بك بعيدا عن اللاإنسانية، تلك التي تجعلك تتسوّل الحياة هنا وهناك، تلك الضمائر الميتة، وسترى منهم في رحلتك المأساوية الكثير. كنت أبحث بين الدهاليز عن طريق يخرجك من تلك الغيابة. كان عليّ أن أصرخ وحدي بصوت عال لكي يسمعني من يستطيع. لم تسكن نفسي إلا حين هبطت طائرة الإخلاء الطبي، وعند سلّمها " بكيت غصبا بكيت " وأنا الذي كنت أخفي عورة دموعي حتى عن نفسي، ذلك حين أخبرني الطبيب المرافق للطائرة بأن حالتك لا تسمح بنقلك، لأن الضغط الجوي يشكل خطرا على حياتك، ويجب إعادتك للمستشفى، فرفضت،ولم يوافق الطبيب إلا حين كتبت له تعهدا موقعا بأني أنا المسئول، فإذا كان ولا بد من الموت فإني أحب لك الموت " فوق هام السّحب "، بين السماء والأرض، بعيدا عن اللاإنسانية.
أنا المسئول يا ولدي ؟! وهل أنا طبيب يا ولدي ؟!. معذرة إن كنت أنا الذي قتلك . لن أكتب القصة كاملة يا ولدي، وسأشير إلى طرف منها، فأنا متخصص في علم طبقات الضمير ولا أعرف شيئا عن طبقات الجوّ. ومن الجوّ تنظر الممرضة من النافذة وتصرخ في الطبيب: الإسعاف غير موجود!. كان يجب عليك أن تنتظر في حجرة الطائرة لأكثر من ساعة، والباب مشرع في ليلة من ليالي المربعانية واسطوانة الأكسجين على وشك النفاذ، ليس هذا فحسب، فسيارة الإسعاف التي حضرت لم يكن فيها " نقّالة "، وكان لا بد من أخذ سرير الطائرة وبتعهد على سائق الإسعاف بإرجاعه. ليس هذا فحسب، فهناك عطل في أجهزة سيارة الإسعاف، فكان الممرض المرافق يقوم بعملية التنفس اليدوي. وعند وصولك إلى المستشفى وضعوك في قسم الطوارىء لأكثر من ساعة أيضا، وأنت المنقول أصلا من غرفة عناية مركزة وما زال الممرض هنا يقوم بعملية التنفس اليدوي . وحين حملوك إلى غرفة العناية اكتشفوا أن الخراطيم التي في جوفك ملوثة، وبعد حين توقّف قلبك. آه لقد تعب يا ولدي، وآن له أن يرتاح بعض الوقت . توقف أربعة دقائق قبل أن تصل إليك النجدة من غرفة " السواليف " وهذا لا يبشّر بخير ! ذلك قول الطبيب الذي قام بعملية الإنعاش القلبي .
وفي اليوم الذي كنت فيه على موعد مع الغياب الأبدي، تركتك وذهبت الى طبيب العظام أسأله عن موعد العملية فقال لي : أنت تتحدث عن عملية، وأنا أحدثك عن موت ! يعني لا أمل! . ياله من طبيب ما أوقحه، وأوقح منه ذلك الطبيب الذي دخلت عليه وهو يرمّم جثمانك، وأنا لا أعلم بحالك، ففاجئني قائلا: البقيّة في حياتك !. لا أبقى الله لكم حياة يا زبالة العالم .
ثلاثون ليلة وأنا معك يا ولدي، وها أنذا أودّعك دون أن أنظر إلى وجهك، ودون أن أحثو التراب على جسدك، وكنت أعجب من شجاعة أخيك الصغير وهو يحثو التراب ليواريك . لا أدري إن كان يعرف معنى الموت. لم أبك عليك في تلك الساعة وكم تمنيت أني ملأت قبرك بالدموع . لم تكن قسوة قلب، وأنت تعرف، لكنه الرضا بقضاء الله وقدره .
رحلت أنت وبقيت أنا أنظر إلى صورتك في كل مكان وكل الأشياء التي لا تزول تذكرني بك. أسمك المنقوش على صفحة الجدار . ما زلت أتحاشى الأماكن التي تذكرني بك، حتى غرفتك التي كنت تأوي إليها لم أدخلها، ودفتر مذكراتك الذي ورثته عنك لم أستطع قراءته لهذه الساعة. رحلت دون أن تنطق بكلمة طيلة ثلاثين ليلة. كنت تريد أن تقول لي شيئا، فأحضرت لك لوحة الحروف، عسى أن أعرف منك جملة مفيدة. كنت مصرا على أن أعرف ما يدور في خلدك، ربما أمنية أحققها لك، لكنك غبت يا ولدي قبل الغياب الأخير دون أن تشير برأسك إلى حرف من حروف الهجاء.
لست حزينا عليك الآن يا ولدي، وهذا لا يعني أنّ " فرقاك عيد " لكن العيد أن فارقت أنت هذا العالم الذي لا يستحق أن تعيش فيه لحظة . سأقيم سرادق الفرحة بغيابك في قلبي لأنك رحلت إلى عالم الرحمة، وسأعزف لك في كل ليلة على الرّبابة لحن الخلود .
أه يا ولدي، لقد علمتني أن الموت شيء رائع !