التكنولوجيا المعاصرة كانت تبشّر في البدء بنشوء حالة استقلال فكريّ لدى أفراد المجتمع، إلا أن ادعاءات الاستقلال أضحت وهماً ثقافياً، إذ ضاعفت تلك التكنولوجيا بشبكاتها الاجتماعيّة حالة التبعيّة ورسخت الأيديولوجيا غير المتسامحة والتي ترى بأن الانتصار لا يمكن أن يتحقق على أرض المعركة الإلكترونيّة دون ممارسة أساليب الإقصاء والتشهير والتحوّل من نقد الفكرة إلى نقد الشخصيّات الحاملة لها، مجسدة حالة عمى ثقافي له أثره في تراجع المجتمع على المستوى المعرفي.
الأحداث المتسارعة في المجتمع والمثيرة للجدل تُعد بيئة خصبة لاستقراء حالات التبعيّة العمياء سواءً أكانت لشخصيّات تزعم بأنها ليبراليّة أو تلك الأخرى التي تصنّف نفسها سلفيّة، والحقيقة أن حالة الاتباع غير الواعية ليست سوى شكل من أشكال العبوديّة الثقافيّة، إذ ترى في الشخص عصمة غير معلنة تنعكس على سلوكيّات الأفراد بوصفهم جنودًا يذودون عن حمى شخصيّاتهم ظناً منهم بأن حماية رموزهم جزء من هويّتهم غير القابلة للتفاوض أو المساومة.
حالة الإعلامي علي العلياني وأتباع بعض الرموز الدينيّة طفت على السطح بقوّة مؤخراً لتكشف عن أنساق ثقافيّة مضمرة تحفل بالتشهير والتشفي وهتك الأستار لا بوصفها أعمالاً شيطانياً وسلوكيات غير حضارية، بل على العكس من ذلك، حيث برزت الأنساق المقيتة كجزء من العبادات الواجبة التي يثاب فاعلها ويأثم تاركها، ما ساهم في تعميق أزمة الحوار عبر تحويله من حوار فكريّ إلى حوار ديني يصل مداه في بعض الأحيان إلى حد التكفير والإقصاء من الملّة.
قد يبدو الرمز الشهير متسامحاً عند إطلالته على جماهيره ولا تكاد الابتسامة تفارقه، إلا أن أتباعه يرفضون التسامح أو التبسّم في وجوه المخالفين، وهذه الحالة تكشف عن أن التبعيّة ليست حالة اقتداء واعية بالرموز وما يحملونه من سلوكيّات حميدة، إنما هي تشوّه وانحراف فكري تغذيه الثقافة التي تصوّر الآخر على أنه تهديد لمكانة الرمز الذي تحوّل إلى صنم في عقول من يؤمنون به، ما أنتج تشوهاً اجتماعياً تسود فيه لغة الشتائم والاتهامات، وبذلك يصبح الشخص المتدين هو الدين والشخص المتلبرل هو الليبراليّة.
وعلى الرغم من أن المتدين والمتلبرل جميعهم يؤكدون بأن الدين والليبرالية يحثّان على الحوار الراقي وقبول الرأي المخالف، إلا أنهما في الآن ذاته يمارسان التطرّف الحواري عند الخصومة لتبلغ حدّ الفجور فيها، وهو نكوص عن المنهج الداعيان له، ما يكشف عن أن الطرفين اتخذا من التدين والتلبرل غطاءً لكسب الأتباع غير المدركين لما يقعان به من تناقض فاضح يبرهن على أن المنهج لا يختزل في أفراد استغلاليين يقتاتون على عقول الجماهير.
ومع أن التناقض فيما بين المنهج والسلوك يظهر جلياً، إلا أن كل فئة تجد في مدونتها الثقافيّة ما يبرر لها ارتكابها فعل النبذ والإقصاء، حيث يرى المتديّن بأن أوامر الدين في مسألة ستر المسلم لا تنطبق على من يدعي بأنه ليبرالي لأن في إسلامه نظر حتى وإن كان يشهد ألا إله إلا الله ويصلي ويصوم ويزكي ويحج، إذ أن في عقله لوثة غربيّة وفضحه أمر محمود.
في حين يعتقد الليبرالي بأن التجاوز اللفظي تجاه المتديّن لا يتنافى مع مبادئ الليبراليّة التي تكفل حق التعبير للجميع دون قيود؛ لأن المتديّن في نظره كائن ظلامي يحمل أفكاراً رجعيّة تهدم أي خطوات لبناء المجتمع وتطورّه، وتلك المبررات التي يقدمها الطرفان ليست سوى حيلة من حيل الثقافة لتضاعف من انقسام المجتمع وتزرع روح الصراع الفكري غير الحضاري والرافض لأي تعايش سلميّ يؤمن بالتعددية الثقافيةّ.
الأنساق الثقافية تحاول جاهدة أن تُبعد أفراد المجتمع عن مبدأ المواطنة، وتحث على التعامل مع الآخر بوصفه فرداً غير وطني، ومن هذه النقطة المركزيّة تظهر خطورتها على المجتمعات، إذ من الضروري التنبه لها والوعي بأن السلوكيّات المتطرّفة لا دين لها ولا مذهب، إنما هي اجترار لمدونة ثقافيّة عمياء اعتادت على العيش وسط الفوضى والصراعات المستهلكة لعقول الأفراد وطاقاتهم.
* ماجستير في النقد والنظرية
الأحداث المتسارعة في المجتمع والمثيرة للجدل تُعد بيئة خصبة لاستقراء حالات التبعيّة العمياء سواءً أكانت لشخصيّات تزعم بأنها ليبراليّة أو تلك الأخرى التي تصنّف نفسها سلفيّة، والحقيقة أن حالة الاتباع غير الواعية ليست سوى شكل من أشكال العبوديّة الثقافيّة، إذ ترى في الشخص عصمة غير معلنة تنعكس على سلوكيّات الأفراد بوصفهم جنودًا يذودون عن حمى شخصيّاتهم ظناً منهم بأن حماية رموزهم جزء من هويّتهم غير القابلة للتفاوض أو المساومة.
حالة الإعلامي علي العلياني وأتباع بعض الرموز الدينيّة طفت على السطح بقوّة مؤخراً لتكشف عن أنساق ثقافيّة مضمرة تحفل بالتشهير والتشفي وهتك الأستار لا بوصفها أعمالاً شيطانياً وسلوكيات غير حضارية، بل على العكس من ذلك، حيث برزت الأنساق المقيتة كجزء من العبادات الواجبة التي يثاب فاعلها ويأثم تاركها، ما ساهم في تعميق أزمة الحوار عبر تحويله من حوار فكريّ إلى حوار ديني يصل مداه في بعض الأحيان إلى حد التكفير والإقصاء من الملّة.
قد يبدو الرمز الشهير متسامحاً عند إطلالته على جماهيره ولا تكاد الابتسامة تفارقه، إلا أن أتباعه يرفضون التسامح أو التبسّم في وجوه المخالفين، وهذه الحالة تكشف عن أن التبعيّة ليست حالة اقتداء واعية بالرموز وما يحملونه من سلوكيّات حميدة، إنما هي تشوّه وانحراف فكري تغذيه الثقافة التي تصوّر الآخر على أنه تهديد لمكانة الرمز الذي تحوّل إلى صنم في عقول من يؤمنون به، ما أنتج تشوهاً اجتماعياً تسود فيه لغة الشتائم والاتهامات، وبذلك يصبح الشخص المتدين هو الدين والشخص المتلبرل هو الليبراليّة.
وعلى الرغم من أن المتدين والمتلبرل جميعهم يؤكدون بأن الدين والليبرالية يحثّان على الحوار الراقي وقبول الرأي المخالف، إلا أنهما في الآن ذاته يمارسان التطرّف الحواري عند الخصومة لتبلغ حدّ الفجور فيها، وهو نكوص عن المنهج الداعيان له، ما يكشف عن أن الطرفين اتخذا من التدين والتلبرل غطاءً لكسب الأتباع غير المدركين لما يقعان به من تناقض فاضح يبرهن على أن المنهج لا يختزل في أفراد استغلاليين يقتاتون على عقول الجماهير.
ومع أن التناقض فيما بين المنهج والسلوك يظهر جلياً، إلا أن كل فئة تجد في مدونتها الثقافيّة ما يبرر لها ارتكابها فعل النبذ والإقصاء، حيث يرى المتديّن بأن أوامر الدين في مسألة ستر المسلم لا تنطبق على من يدعي بأنه ليبرالي لأن في إسلامه نظر حتى وإن كان يشهد ألا إله إلا الله ويصلي ويصوم ويزكي ويحج، إذ أن في عقله لوثة غربيّة وفضحه أمر محمود.
في حين يعتقد الليبرالي بأن التجاوز اللفظي تجاه المتديّن لا يتنافى مع مبادئ الليبراليّة التي تكفل حق التعبير للجميع دون قيود؛ لأن المتديّن في نظره كائن ظلامي يحمل أفكاراً رجعيّة تهدم أي خطوات لبناء المجتمع وتطورّه، وتلك المبررات التي يقدمها الطرفان ليست سوى حيلة من حيل الثقافة لتضاعف من انقسام المجتمع وتزرع روح الصراع الفكري غير الحضاري والرافض لأي تعايش سلميّ يؤمن بالتعددية الثقافيةّ.
الأنساق الثقافية تحاول جاهدة أن تُبعد أفراد المجتمع عن مبدأ المواطنة، وتحث على التعامل مع الآخر بوصفه فرداً غير وطني، ومن هذه النقطة المركزيّة تظهر خطورتها على المجتمعات، إذ من الضروري التنبه لها والوعي بأن السلوكيّات المتطرّفة لا دين لها ولا مذهب، إنما هي اجترار لمدونة ثقافيّة عمياء اعتادت على العيش وسط الفوضى والصراعات المستهلكة لعقول الأفراد وطاقاتهم.
* ماجستير في النقد والنظرية