○ ليلة عيد 2016
يخلع جميع الناسكين رداء الزهد بعد إعلان رؤية هلال العيد ليرتدوا ثوب الدفة أو الأصيل وتتحسس الصغيرات الحديدة الدائرية في نهاية الفستان ( النفاش ).. انتقال مفاجىء من حالة ترفض مباهج الدنيا إلى غرق بين (شرطان) مزعل فرحان والصريخ والليمون .
ليلة العيد كانت مختلفة بالفعل.. ترى الجميع بعدها نظيفين .. تستمتع بدهشة النقلة الجذرية في كل شيء .. لم تكن إنارة الشوارع بهذا الزخم .. لايوجد سوى حواري مظلمة يشعلها صراخ الأطفال حين يبحثون عن العظم المدسوس في التراب مستمتعين بلعبة ( عظيم ضاع ) .. لم تكن الألعاب النارية رائجة سوى أرخص صنفين ( أم سليك ) و ( صاروخ ) .. لكن اللذة العارمة تتسيد المكان حين يشعل أحدهم ( سلكة مواعين ) ويشوح بها بكل احترافية وشجاعة فتتعالى الهتافات وتضاء ليلة العيد.
يقتحم فستان العيد ( النفاش ) دواليبنا وكأننا لم نلبس من قبل فستاناً مع أننا اشترينا واحداً في العيد الماضي .. ذلك الفستان المنفوخ المخبوء عن الجيران والأقارب .. حتى الإفصاح عن لونه كان أحد التابوهات المسكوت عن التحدث بها.
بعد ليلة العيد مباشرة.. وقبل بزوغ الشمس لاترى *الصبية حفاة كما اعتدنا بل الكل ينتعل النوع ( القصيمي ) ويحاول الضغط أكثر والمشي حتى تتسع وتناسب مقاس قدمه.
تلك الرؤوس العارية لم تعد كذلك .. الكل تزين رأسه الغترة وهناك آثار دموع على خد ذلك الطفل لأنه لايريد شماغ أو لعله يرغب بوضع عقاله مائلاً تيمناً بأبيه .. الأمهات يتلاعبن ببراءة الصغار ويطلقن التهم بكل بلادة ولا مبالاة ( ينصب يريد فلانة) لم تنهك كواهلهن القراءة في علم النفس ولا يعرفن أن الإنسان يسلك مايتوقع منه.
رغم كل التجاعيد التي تبدو على كفّي تلك الطفلة حين غسلتها من الحناء بعد أن أحكمت أمها ربط يدها بكيس أثناء الليل.. إلا أن تلك الرائحة التي تبشر بالفرح تغمر أنفها والمكان .. لا يستمر ذلك الألم بعد أن تدهن أمها كفيها بالفازلين الثقيل .. وكي تخفف من سماكته تعرضهما للمدفأة( حتى يذوب) متأملة بلهفة هل أصبح أحمراً قانياً كما يجب أم برتقالياً فاشلاً فيتعكر صفو عيدها .. تشم جميع حواسك رائحة الكولونيا والعطورات الرخيصة النفاثة لكنها ذات دلالات عميقة لأنها تحدث مرة في السنة فتستفز دهشتنا كلما قتلتنا الرتابة.
لايكون الإفطار كالمعتاد .. الكل يرقب (تاوة الكبدة) المصنوعة بحب وفرح .. (الحنينات ) جميعها مدهونة بالسمن .. الأباريق المخبأة لمجيء الضيوف والأطباق الملونة كلها تخرج بلا استثناء حتى القهوة تشعر بطزاجتها ونكهتها التي تخترق كل جنبات الحي لأنها محموسة للتو.
ذلك (الورس) الصغير الأحمر الأصلي لم يعد ملكاً للأم فقط .. تزينت به كل بناتها الكبيرات والصغيرات وهو يؤدي الغرض في تلوين الشفافة والخدود أيضاً.
كل الرجال يبتسمون في الشوارع .. كلهم شعروا بانتعاش حين استحموا واستخدموا فرشاة الأسنان رغم أنها لم تحسن إزالة ماصنع الزمن والدخان .. علبة الشامبو الأحمر الطويلة كانت تكفي الجميع ولها أغراض أخرى.
لم يكن مجتمع الحارة البسيط مشغولاً بالتقسيمات الطائفية .. ولم يكن يدرك الجميع أنهم من طبقة كادحة .. لأن طبقة واحدة احتضنتهم جميعاً.. التشابه في الألم والتعاسة لم يشعرهم بالسخط يوماً .. شربوا الوجع حتى أدمنوه فأصيبوا بالرضا المطلق .. ليس للوعي مكان بينهم .. وإن حاول التواجد سجنوه قبل أن ينحر سعادتهم البسيطة .. يغفون على فرح لأنهم لم يؤمنوا بمذهب محدد للسعادة .. ذلك المذهب الذي نستقيه اليوم من مشاهدة حياة مشاهير السناب المترفين.
سناب شات الذي جعلنا نعيش من أجل الصورة والصورة فقط.. ونستطيع إيجاد الفروقات المليون بين من يطرح معلومات مختزنة نتيجة جهد متراكم وغوص عميق ضاربة جذوره في أعماق مثقف حقيقي .. وبين ( متثيقف ) يحفظ كم معلومة بعقلية مسطحة قبل تسجيل سنابه فيصفق له كل الحمقى الذين لا يتقنون الغربلة .. حتى الثقافة صارت تشبه علبة النوتيلا أو خاتم الألماس .. كلها ( فور شو) يتناولها الجميع بينما يلتهمون وجبة ماكدونالدز.
في هذا العالم المتصارع من أجل الوصول لصورة أو مقطع يجذب أكبر شريحة من الناس أيًّا كان نوعهم .. يجذبني نص لفيصل العامر المصاب بالنوستالجيا .. فأكتب على هامش الصفحة ( هناك من يشبهك مصاب بالنوستالجيا والأبابة والحنين والشوق لليلة العيد الأصدق قبل أن تبعثر أرواحنا مادية الواقع المؤلمة .. قبل أن نرهن أجمل لحظاتنا لنشرها في سناب شات).
إضاءة/ فيصل العامر هو كاتب المسلسل العظيم ( مسامير ).
● ريم الجوفي*
يخلع جميع الناسكين رداء الزهد بعد إعلان رؤية هلال العيد ليرتدوا ثوب الدفة أو الأصيل وتتحسس الصغيرات الحديدة الدائرية في نهاية الفستان ( النفاش ).. انتقال مفاجىء من حالة ترفض مباهج الدنيا إلى غرق بين (شرطان) مزعل فرحان والصريخ والليمون .
ليلة العيد كانت مختلفة بالفعل.. ترى الجميع بعدها نظيفين .. تستمتع بدهشة النقلة الجذرية في كل شيء .. لم تكن إنارة الشوارع بهذا الزخم .. لايوجد سوى حواري مظلمة يشعلها صراخ الأطفال حين يبحثون عن العظم المدسوس في التراب مستمتعين بلعبة ( عظيم ضاع ) .. لم تكن الألعاب النارية رائجة سوى أرخص صنفين ( أم سليك ) و ( صاروخ ) .. لكن اللذة العارمة تتسيد المكان حين يشعل أحدهم ( سلكة مواعين ) ويشوح بها بكل احترافية وشجاعة فتتعالى الهتافات وتضاء ليلة العيد.
يقتحم فستان العيد ( النفاش ) دواليبنا وكأننا لم نلبس من قبل فستاناً مع أننا اشترينا واحداً في العيد الماضي .. ذلك الفستان المنفوخ المخبوء عن الجيران والأقارب .. حتى الإفصاح عن لونه كان أحد التابوهات المسكوت عن التحدث بها.
بعد ليلة العيد مباشرة.. وقبل بزوغ الشمس لاترى *الصبية حفاة كما اعتدنا بل الكل ينتعل النوع ( القصيمي ) ويحاول الضغط أكثر والمشي حتى تتسع وتناسب مقاس قدمه.
تلك الرؤوس العارية لم تعد كذلك .. الكل تزين رأسه الغترة وهناك آثار دموع على خد ذلك الطفل لأنه لايريد شماغ أو لعله يرغب بوضع عقاله مائلاً تيمناً بأبيه .. الأمهات يتلاعبن ببراءة الصغار ويطلقن التهم بكل بلادة ولا مبالاة ( ينصب يريد فلانة) لم تنهك كواهلهن القراءة في علم النفس ولا يعرفن أن الإنسان يسلك مايتوقع منه.
رغم كل التجاعيد التي تبدو على كفّي تلك الطفلة حين غسلتها من الحناء بعد أن أحكمت أمها ربط يدها بكيس أثناء الليل.. إلا أن تلك الرائحة التي تبشر بالفرح تغمر أنفها والمكان .. لا يستمر ذلك الألم بعد أن تدهن أمها كفيها بالفازلين الثقيل .. وكي تخفف من سماكته تعرضهما للمدفأة( حتى يذوب) متأملة بلهفة هل أصبح أحمراً قانياً كما يجب أم برتقالياً فاشلاً فيتعكر صفو عيدها .. تشم جميع حواسك رائحة الكولونيا والعطورات الرخيصة النفاثة لكنها ذات دلالات عميقة لأنها تحدث مرة في السنة فتستفز دهشتنا كلما قتلتنا الرتابة.
لايكون الإفطار كالمعتاد .. الكل يرقب (تاوة الكبدة) المصنوعة بحب وفرح .. (الحنينات ) جميعها مدهونة بالسمن .. الأباريق المخبأة لمجيء الضيوف والأطباق الملونة كلها تخرج بلا استثناء حتى القهوة تشعر بطزاجتها ونكهتها التي تخترق كل جنبات الحي لأنها محموسة للتو.
ذلك (الورس) الصغير الأحمر الأصلي لم يعد ملكاً للأم فقط .. تزينت به كل بناتها الكبيرات والصغيرات وهو يؤدي الغرض في تلوين الشفافة والخدود أيضاً.
كل الرجال يبتسمون في الشوارع .. كلهم شعروا بانتعاش حين استحموا واستخدموا فرشاة الأسنان رغم أنها لم تحسن إزالة ماصنع الزمن والدخان .. علبة الشامبو الأحمر الطويلة كانت تكفي الجميع ولها أغراض أخرى.
لم يكن مجتمع الحارة البسيط مشغولاً بالتقسيمات الطائفية .. ولم يكن يدرك الجميع أنهم من طبقة كادحة .. لأن طبقة واحدة احتضنتهم جميعاً.. التشابه في الألم والتعاسة لم يشعرهم بالسخط يوماً .. شربوا الوجع حتى أدمنوه فأصيبوا بالرضا المطلق .. ليس للوعي مكان بينهم .. وإن حاول التواجد سجنوه قبل أن ينحر سعادتهم البسيطة .. يغفون على فرح لأنهم لم يؤمنوا بمذهب محدد للسعادة .. ذلك المذهب الذي نستقيه اليوم من مشاهدة حياة مشاهير السناب المترفين.
سناب شات الذي جعلنا نعيش من أجل الصورة والصورة فقط.. ونستطيع إيجاد الفروقات المليون بين من يطرح معلومات مختزنة نتيجة جهد متراكم وغوص عميق ضاربة جذوره في أعماق مثقف حقيقي .. وبين ( متثيقف ) يحفظ كم معلومة بعقلية مسطحة قبل تسجيل سنابه فيصفق له كل الحمقى الذين لا يتقنون الغربلة .. حتى الثقافة صارت تشبه علبة النوتيلا أو خاتم الألماس .. كلها ( فور شو) يتناولها الجميع بينما يلتهمون وجبة ماكدونالدز.
في هذا العالم المتصارع من أجل الوصول لصورة أو مقطع يجذب أكبر شريحة من الناس أيًّا كان نوعهم .. يجذبني نص لفيصل العامر المصاب بالنوستالجيا .. فأكتب على هامش الصفحة ( هناك من يشبهك مصاب بالنوستالجيا والأبابة والحنين والشوق لليلة العيد الأصدق قبل أن تبعثر أرواحنا مادية الواقع المؤلمة .. قبل أن نرهن أجمل لحظاتنا لنشرها في سناب شات).
إضاءة/ فيصل العامر هو كاتب المسلسل العظيم ( مسامير ).
● ريم الجوفي*