أجدبت الأرض، ويبس الكلا، وتطايرت به الرياح، فندر المرعى، ونضب الضرع ، وهزلت الأغنام، وتفرقت الخيام، وتعاوت الذئاب، وكثرة الأمراض، فتنادى الأقوام إلى الهجرة لبلاد الشام؛ ففيها المرعى الخصيب، والزرع الرطيب، لكن الرحلة تهلك النسل، والحرث، والأنعام؛ فقال سليمان: لا قدرة لي بالانتقال والارتحال مع العربان، فآثر البقاء في الديار وتجاور مع أيتام، وقليل من الكبار الذين لا قدرة لهم على الارتحال، وكان الصيد هو الغذاء فتعهدهم بالصيد القليل، وما أسعد ذلك النزل بسليمان يوم يقبل وهو مثقل بالوعل أو الغزلان، فهم في ليلة ليلاء على لحمه بلا غذاء، وكان ينتقل نهارا على بعض الحمر يجذب الماء من الآبار، ويجلبه لذلك النزل، وتصحبه بعض الأمهات الهزال المثقلات بحمل الأطفال وأيديهن تعمل بالغزل في الذهاب والإياب وتقطعت بهم الأسباب؛ فالأقارب نزحوا، والأمراض جثمت، والأغنام هلكت، حتى كلب الصيد الغالي دب إليه الهزال، وكان سليمان يتعهد رفيق العمر، ورفيق العمر يحرسه، ويتخطف الصيد له وكانا صديقين حميمين، وعند الصباح الباكر استيقظ سليمان من حلم كان فيه يجوب المزارع الخضراء، فتجاذبته التأويلات؛ هل هو غيث أو تتهيأ السبل إلى رياض الشام، أو حلم البشارة بالآخرة السارة، ولم يطل التفكير حتى رفع صوته بالآذان، وتوافد إليه متقدمي السن؛ فصلى بهم ثم أنثنى هو وصحبه إلى (الشق)؛ وقد أحضرت امرأته (خميسة) الماء والقهوة؛ فآخذ يحمسها ثم يطحنها بالنجر (الهاون)، ثم أخذت تغلي، ثم جذبها، فتجاذبها الرجال بشهوة وتدفئة وتغذية؛ ثم تناول بندقيته وأشلى كلبه (بطاح)، وأخذ يتسلق جبلا شاهقا؛ فإذا الصيد يرتع ويلعب فذهب كلب الصيد مختفيا ليجعلهن يرجعن حول سليمان، ثم برزت إحداهن لسليمان فأرادها قتيلة وأقبل بطاح ليرى؛ هل فاز صاحبه بالصيد؟ وإذا سليمان يذكيها فأقبل نازلا من أعلى الجبل، ولكن وطئ حجرا كبيرا متحركا متداعيا، فتدحرج الحجر وأخذ يعلو ويهبط فترفعه الحجارة تارة يهبط على حجر ويرفعه فوق حجر ويتدافع أكثر فأكثر، وسليمان يقول: لعل الكلب سليم والكلب يرقب الحجر علوها وتدحرجها لعلها لا تقترب من سليمان، لكن الحجر تتقاذفه الحجرات حتى ارتفعت فسقط على سليمان فأردته قتيلا ، وتمدد الكلب بجانبه وتقلب ذات اليمين وذات الشمال وهو يئن ويعوي؛ ثم نهض إلى النزل وأتاهم وأخذ ينبح ويرجع؛ ثم عاود ذلك، حتى قال أحد الكبار: ويل لهذا الكلب عسى سليمان طيبا، فذهبوا وراء الكلب فوجدوا سليمان قتيلا، فتكاثر العويل والصراخ واكفهرت وجوه الرجال وفزع الأطفال، فهم لا يدركون ما وراء ذلك؛ أمّا الكلب(بطاح) فإنه أحجم عن الطعام؛ يذهب إلى قبر صاحبه تارة، ويطوف بالبيت تارة أخرى، وتارة يعلو الجبل ويقف على الحجر المشئوم، ويشم الدماء ويرسل العواء تلو العواء، وظل كذلك حتى مات بعد سليمان بأسبوع.