كنت أسير في الشارع . لا , لم يصادفني حرامي . بل كانت هناك ورقة من فئة الخمسين ريالا ملقاة على الأرض . وكان الهواء يحركها نحوي وكأنها تقول " خذني بحنانك خذني " .
لكنني تركتها حيث هي ، للريح , للبرد , للشمس , إن أصبح عليها الصبح .
لماذا تركتها ؟
سؤال يختبيء جوابه في ذاكرة الأيام . وكلما وجدت شيئا ولو كان ريالا تذكرته . ذلك حين كنت طفلا صغيرا لا يعرف عدّ النقود . وكنت يومها ألعب بين بيوتات الشّعر . وفي طريق عودتي إلى البيت وجدت " صرّة " صغيرة ، فيها بعض الأوراق النقديّة والمعدنيّة , لا أدري كم عددها .. لكنها كانت بالنسبة لي " كنز " .. فأخذتها وجريت بها فرحا فخورا إلى أمي يرحمها الله فوافيتها وهي تخبز , وألقيت الصّرة في حجرها وعيني على رغيف خبز كجائزة استحقاق . لكنها حين أدركت الأمر نهضت فزعة ، وكأني ألقيت في حجرها ثعبانا ، فتناولت عصا طريا من رتم , وأخذت تلسعني به , وهي تقول : من وين جبتها ؟
كنت مندهشا من ردة فعل أمي الغاضبة .. ولم تترك لي مجالا للشرح .. ففي مفهوم أمي أن السماء لا تمطر صررا .. وفي مفهومها أيضا أن المتهم مجرم حتى تثبت براءته !.. لا شك أنها اعتقدت أني حرامي .. وعودتي من ناحية بيوت الجيران قرينة قوية للإدانة . وبعد أن أوسعتني ضربا تركت العجين , وتركتني أبكي خلف الرّواق , وذهبت تحوم على بيوت الجيران بيتا بيتا , تعرّف الصرة . ماذا لو أن إحدى الجارات قالت هي لي ؟ . لا بد وأنني في " زنقة " . لكن الناس رغم الحاجة كانوا أمناء ولا زال الخير فيهم . عادت أمي المسكينة تحمل الصّرة , وراية براءتي ترفرف فوق هامتها . لقد أحرقت من السعرات الحرارية في مشوارها ما يفوق عدد تلك الدراهم .. رأيتها والعرق يتصبب من جبينها في رحلة البحث عن الحقيقة وكأني سرقت البنك الدولي . فقالت لي مرة أخرى : من وين جبتها ؟ الآن أستطيع أن أدافع عن نفسي . فقلت : إني وجدتها عند مبرك جمل " فلان " الذي حل ضيفا علينا ليلة البارحة ورحل مع طلوع الفجر . قالت : صدقت ! هي له . فأودعت تلك الصّرة في جراب على أمل أن يعود صاحبها في يوم من الأيام .
ماذا لو عاشت أمي إلى هذا الزمان وألقيت في حجرها عشرات الآف . هل ستكتفي بمطرق الرتم ؟ أم ستعلقني على عامود كهرباء ؟ أم أنها مع تبدل الأحوال ستقول لي وهي تبتسم : وراك ما جبت لنا فطاير ولا بيتزا أو قاتوه نحلي فيه !. أم أنها ستبقى وفيّة لمبادئها القديمة وتصرخ في أهل المدينة : إلحقوني وليدي حرامي !
هنا تبدو الحكاية أكبر من صرة ، وأكبر من خمسين ريالا ملقاة على قارعة الطريق . ذلك حين تغيب مطرق " الرتم " عن جلود الذين ينهبون الأموال على أي وجه كان .. إنني أكاد أتعاطف مع الحراميّة الذين يسرقون لقوت يومهم .. لكنني لن أتعاطف أبدا مع أصحاب الملايين الذين يسرقون الملايين . أولئك الذين نجدهم من أكثر الناس حديثا عن الوطنية ! . ربما كان الذين يبحثون بمخاطرة عن اسطوانة غاز أو متاع هنا وهناك أشرف من أولئك المتفيّلون .. فمن العجيب أن تجد في بيتك ورقة وقد كتب عليها الحرامي " نأسف لإزعاجكم " .. هذا الحرامي اكتفى بهذه العبارة , لأنه يعرف حقيقة فعله , وربما تلومه نفسه .. لذلك لم يطاوعه ضميره أن يقول " نعمل من أجلكم "
وتحيّة للحراميّة الذين يسرقون في وضح النهار , الذين خدمتهم التكنولوجيا المتقدمة والذمم المتخلفة !
والسلام
لكنني تركتها حيث هي ، للريح , للبرد , للشمس , إن أصبح عليها الصبح .
لماذا تركتها ؟
سؤال يختبيء جوابه في ذاكرة الأيام . وكلما وجدت شيئا ولو كان ريالا تذكرته . ذلك حين كنت طفلا صغيرا لا يعرف عدّ النقود . وكنت يومها ألعب بين بيوتات الشّعر . وفي طريق عودتي إلى البيت وجدت " صرّة " صغيرة ، فيها بعض الأوراق النقديّة والمعدنيّة , لا أدري كم عددها .. لكنها كانت بالنسبة لي " كنز " .. فأخذتها وجريت بها فرحا فخورا إلى أمي يرحمها الله فوافيتها وهي تخبز , وألقيت الصّرة في حجرها وعيني على رغيف خبز كجائزة استحقاق . لكنها حين أدركت الأمر نهضت فزعة ، وكأني ألقيت في حجرها ثعبانا ، فتناولت عصا طريا من رتم , وأخذت تلسعني به , وهي تقول : من وين جبتها ؟
كنت مندهشا من ردة فعل أمي الغاضبة .. ولم تترك لي مجالا للشرح .. ففي مفهوم أمي أن السماء لا تمطر صررا .. وفي مفهومها أيضا أن المتهم مجرم حتى تثبت براءته !.. لا شك أنها اعتقدت أني حرامي .. وعودتي من ناحية بيوت الجيران قرينة قوية للإدانة . وبعد أن أوسعتني ضربا تركت العجين , وتركتني أبكي خلف الرّواق , وذهبت تحوم على بيوت الجيران بيتا بيتا , تعرّف الصرة . ماذا لو أن إحدى الجارات قالت هي لي ؟ . لا بد وأنني في " زنقة " . لكن الناس رغم الحاجة كانوا أمناء ولا زال الخير فيهم . عادت أمي المسكينة تحمل الصّرة , وراية براءتي ترفرف فوق هامتها . لقد أحرقت من السعرات الحرارية في مشوارها ما يفوق عدد تلك الدراهم .. رأيتها والعرق يتصبب من جبينها في رحلة البحث عن الحقيقة وكأني سرقت البنك الدولي . فقالت لي مرة أخرى : من وين جبتها ؟ الآن أستطيع أن أدافع عن نفسي . فقلت : إني وجدتها عند مبرك جمل " فلان " الذي حل ضيفا علينا ليلة البارحة ورحل مع طلوع الفجر . قالت : صدقت ! هي له . فأودعت تلك الصّرة في جراب على أمل أن يعود صاحبها في يوم من الأيام .
ماذا لو عاشت أمي إلى هذا الزمان وألقيت في حجرها عشرات الآف . هل ستكتفي بمطرق الرتم ؟ أم ستعلقني على عامود كهرباء ؟ أم أنها مع تبدل الأحوال ستقول لي وهي تبتسم : وراك ما جبت لنا فطاير ولا بيتزا أو قاتوه نحلي فيه !. أم أنها ستبقى وفيّة لمبادئها القديمة وتصرخ في أهل المدينة : إلحقوني وليدي حرامي !
هنا تبدو الحكاية أكبر من صرة ، وأكبر من خمسين ريالا ملقاة على قارعة الطريق . ذلك حين تغيب مطرق " الرتم " عن جلود الذين ينهبون الأموال على أي وجه كان .. إنني أكاد أتعاطف مع الحراميّة الذين يسرقون لقوت يومهم .. لكنني لن أتعاطف أبدا مع أصحاب الملايين الذين يسرقون الملايين . أولئك الذين نجدهم من أكثر الناس حديثا عن الوطنية ! . ربما كان الذين يبحثون بمخاطرة عن اسطوانة غاز أو متاع هنا وهناك أشرف من أولئك المتفيّلون .. فمن العجيب أن تجد في بيتك ورقة وقد كتب عليها الحرامي " نأسف لإزعاجكم " .. هذا الحرامي اكتفى بهذه العبارة , لأنه يعرف حقيقة فعله , وربما تلومه نفسه .. لذلك لم يطاوعه ضميره أن يقول " نعمل من أجلكم "
وتحيّة للحراميّة الذين يسرقون في وضح النهار , الذين خدمتهم التكنولوجيا المتقدمة والذمم المتخلفة !
والسلام