تهلّس شعر رأس العجوز ، ولم يبق منه غير شعيرات تظفرها فلا تتجاوز شحمة أذنيها .. ولذلك كنت أقول عنها " أم قرين " . وبما أنها قد ماتت يرحمها الله وذهبت إلى الدار الآخرة .. فإنني سوف أخذ راحتي في الحديث عن تأريخها بصفتي شاهد على عصرها ، وقد أمنت من مركادها الطويل . ولن يكون في مقدور " أم لسانين " الناطقة الرسمية باسمها أن تأتي وتنفي لأنها هي الأخرى لحقت بها ، والحمد لله .
وللأمانة التاريخية فإن " أم قرين" إسم مستعار لشخصية حقيقية وواقعية . وإني أخشى أن تكون إحدى العجائز ممن عاصرن تلك الحقبة أن تكون قد ولدت بعد سن اليأس طفلا معجزة أسمته " قرين " . تبقى مصيبة !
وبعد : كانت " أم قرين " في صباها وفتوة شبابها إمرأة كشأن نساء البادية مشغولة من رأسها حتى أخمص قدميها ، ولا وقت لديها للحكي الفاضي : تعجن وتخبز .. ترد وتحطب .. تخض وتحلب .. وترضع البهم ( صغار الغنم ) تكنس وتغسل .. وكله يدوي .. ومع ذلك كانت تبتسم .. بل كانت تضحك بملىء شدقيها .. يا إلهي ! إنها تضحك !.. ذلك ما حكته لي في صغري حين كنت مبعوثها الخاص بعد أن عجزت كراعيبها عن حمل ما تبقى من لحمها .. هي تحدثني بعد أن سكنت الدور وتخلت كرها عن حياة الشّحططة والمحططة " البادية " .. ربما كانت تحن لتلك الأيام الخالية من أي نوع من أنواع السعادة كما يتصور ذلك أهل الحضر .. والدليل أنها كانت تكثر من قول " يا عماآآر " .
يا عمآآر يا " أم قرين " حين كنت تقصّين عليّ خبر زواجك الأول قبل الرابع .. وكيف أنّ رحلت زفافك استغرقت ثلاثة أيام بلياليهن .. وكيف أنّ صوت الحادي يشعرك وأنت في الهودج بالفرح والسرور ، وأنك في طريقك إلى برج من العاج .
ألا زلت مصرّة يا " أم قرين " على قول يا عماآآآر ؟
وجدت " أم قرين " نفسها بين جدران من الطين أربعة ، وسقف يحجب عن ناظريها الشمس والنجوم والقمر .. وهي التي كانت ترى الدنيا من حولها من خلال بيت الشّعر .. وهي اليوم تثني ركبتيها وتسند ظهرها إلى جدار صلب .. فلا ناقة ترغي ، ولا شاة تثغي ، ولا كلب ينبح في قاصية الزمن . ماذا تفعل كي تحسّ أنها ما زالت على قيد الحياة ؟ وهي التي ركضت في دروب الدنيا عرضا وطولا ولم تقل في يوم من الأيام " آآآآه " . لأنه لا يوجد في دستور الصحراء مادة تسمح بالتأوّه .. لكنها اليوم بين الجدران تقول : آآآآآه . صوت يجعل سامعه يؤمن بأنّ سعادة الإنسان هي في حريّته . فما تعبت الأجساد إلا حين تعبت النفوس . إنها الصورة المنقولة عبر أقمار الخيال " إظعونهم مع كل روض دواكيك .. بدو يناحيها بروق الحمادي " .
لم تحلم " أم قرين " أن تجد نفسها تحت الأضواء ويشار إليها بالبنان .. فما هي إلا جسد قربت نهاية صلاحيته .. لكن أهميتها كانت تكمن في تاريخها الطويل .. فهي الأكبر سنا من بين جميع ساكني تلك الدور .. وكانت لها حجرة أصبحت فيما بعد صالونا أدبيا وعيادة طبية ترتاده النساء .. وكانت هناك عجوزا هي أصغر منها سنا تساعدها في بعض الأمور وهي الناطقة باسمها " أم لسانين " . وكانت مقولة " أكبر منك بيوم .. أعرف منك بسنة " هو المبدأ الذي تنطلق منه في إدارة صالونها ، وهنا لا مجال للمنافسة أبدا .وعليه فلا بد من الاستسلام الكامل لتلك المعرفة حتى ولو أكل الدهر عليها وشرب . لذلك كانت الثقة في خبرتها وتاريخها عمياء .. ولو قالت بأنها قد رافقت " ذو القرنين " في رحلته إلى مطلع الشمس لصدقوها .. وربما تصّرح الناطقة باسمها أن " أم قرين " كان لها السبق في وضع خطة السّدّ على يأجوج ومأجوج !
كان صالون " أم قرين " يعجّ بالنساء الباحثات عن كل فن . وربما تجد عندها زائرة في السادسة صباحا .. لكن الصالون في آواخر عهده أصبح يتبع أسلوب " الشلليّة " وكله بفضل الناطقة الرسمية " أم لسانين " التي تقرّب هذه وتبعد تلك . ومع أن " أم قرين " لا تجيد قراءة الفاتحة إلا أنها تفتي في أكبر المسائل الفقهيّة .. ولا يمكن أن تقول لا أعرف .. حتى وإن أدّت الفتوى بصاحبتها المستفتية إلى جهنم .. ولو قدّر أن سألتها إحداهن سؤالا وهي لا تعرفه وتعرف أن عامة النساء يعرفنه ولكي لا تقع في الحرج ربما تقول للمستفتية : دا سؤال يا أم فلان ؟ّ! . دا إبنك الزغنون في الابتدائية يعرف الجواب .. إختشوا على دمكوا ! قطعا هي لا تتحدث باللهجة المصرية . لكن المخرج عايز كده !
وقد لعبت الناطقة " أم لسانين " دورا في خراب صالون " أم قرين " وعدم الثقة فيه ، كان آخرها حادثة " العقرب " .. فقد أشيع أنّ في صالون أم قرين " عقرب " .. فما كان من الناطقة " أم لسانين " إلا أن صرّحت من بيتها وقبل أن تغسل وجهها ، فنفت الخبر جملة وتفصيلا ( حسبي الله على الحاسدين ) . كانت أم لسانين تعتقد أن وجود عقرب في صالون " أم قرين " يعدّ فضيحة ، ويهز سمعتها ومركزها ، لذلك نفت الخبر . وكان الأجدر بها أن تذهب إلى صالون أم قرين وتتأكد فربما وجدت تمساحا أو ديناصورا .. وبما أن الأمر يتعلق بحياة أم قرين فقد استدعت فريقا من الخبراء للبحث عن " العقيرب " . كان الأجدر أن تقوم مديرة الصالون أم قرين بنفي أو إثبات الخبر .. ففي مثل هذه الحوادث يريد ساكني الدور " مدير رسمي " وليس " ناطق رسمي " لأن أم قرين أدرى بالعقرب .
ماتت أم قرين دون تكريم من أحد .. وهي التي كانت تعلّم البنات الخياطة والنسج والخرز والدباغة ، وتعلّم الأولاد صناعة " المقلاع " ، وأعطت خبراتها العلاجية لجمع من النساء .
رحم الله أم قرين فقد كانت تستحق التكريم ولو بستة خرفان وقطعة أرض إن شاء الله في مقاطعة كوداك " دمج " .
والسلام
وللأمانة التاريخية فإن " أم قرين" إسم مستعار لشخصية حقيقية وواقعية . وإني أخشى أن تكون إحدى العجائز ممن عاصرن تلك الحقبة أن تكون قد ولدت بعد سن اليأس طفلا معجزة أسمته " قرين " . تبقى مصيبة !
وبعد : كانت " أم قرين " في صباها وفتوة شبابها إمرأة كشأن نساء البادية مشغولة من رأسها حتى أخمص قدميها ، ولا وقت لديها للحكي الفاضي : تعجن وتخبز .. ترد وتحطب .. تخض وتحلب .. وترضع البهم ( صغار الغنم ) تكنس وتغسل .. وكله يدوي .. ومع ذلك كانت تبتسم .. بل كانت تضحك بملىء شدقيها .. يا إلهي ! إنها تضحك !.. ذلك ما حكته لي في صغري حين كنت مبعوثها الخاص بعد أن عجزت كراعيبها عن حمل ما تبقى من لحمها .. هي تحدثني بعد أن سكنت الدور وتخلت كرها عن حياة الشّحططة والمحططة " البادية " .. ربما كانت تحن لتلك الأيام الخالية من أي نوع من أنواع السعادة كما يتصور ذلك أهل الحضر .. والدليل أنها كانت تكثر من قول " يا عماآآر " .
يا عمآآر يا " أم قرين " حين كنت تقصّين عليّ خبر زواجك الأول قبل الرابع .. وكيف أنّ رحلت زفافك استغرقت ثلاثة أيام بلياليهن .. وكيف أنّ صوت الحادي يشعرك وأنت في الهودج بالفرح والسرور ، وأنك في طريقك إلى برج من العاج .
ألا زلت مصرّة يا " أم قرين " على قول يا عماآآآر ؟
وجدت " أم قرين " نفسها بين جدران من الطين أربعة ، وسقف يحجب عن ناظريها الشمس والنجوم والقمر .. وهي التي كانت ترى الدنيا من حولها من خلال بيت الشّعر .. وهي اليوم تثني ركبتيها وتسند ظهرها إلى جدار صلب .. فلا ناقة ترغي ، ولا شاة تثغي ، ولا كلب ينبح في قاصية الزمن . ماذا تفعل كي تحسّ أنها ما زالت على قيد الحياة ؟ وهي التي ركضت في دروب الدنيا عرضا وطولا ولم تقل في يوم من الأيام " آآآآه " . لأنه لا يوجد في دستور الصحراء مادة تسمح بالتأوّه .. لكنها اليوم بين الجدران تقول : آآآآآه . صوت يجعل سامعه يؤمن بأنّ سعادة الإنسان هي في حريّته . فما تعبت الأجساد إلا حين تعبت النفوس . إنها الصورة المنقولة عبر أقمار الخيال " إظعونهم مع كل روض دواكيك .. بدو يناحيها بروق الحمادي " .
لم تحلم " أم قرين " أن تجد نفسها تحت الأضواء ويشار إليها بالبنان .. فما هي إلا جسد قربت نهاية صلاحيته .. لكن أهميتها كانت تكمن في تاريخها الطويل .. فهي الأكبر سنا من بين جميع ساكني تلك الدور .. وكانت لها حجرة أصبحت فيما بعد صالونا أدبيا وعيادة طبية ترتاده النساء .. وكانت هناك عجوزا هي أصغر منها سنا تساعدها في بعض الأمور وهي الناطقة باسمها " أم لسانين " . وكانت مقولة " أكبر منك بيوم .. أعرف منك بسنة " هو المبدأ الذي تنطلق منه في إدارة صالونها ، وهنا لا مجال للمنافسة أبدا .وعليه فلا بد من الاستسلام الكامل لتلك المعرفة حتى ولو أكل الدهر عليها وشرب . لذلك كانت الثقة في خبرتها وتاريخها عمياء .. ولو قالت بأنها قد رافقت " ذو القرنين " في رحلته إلى مطلع الشمس لصدقوها .. وربما تصّرح الناطقة باسمها أن " أم قرين " كان لها السبق في وضع خطة السّدّ على يأجوج ومأجوج !
كان صالون " أم قرين " يعجّ بالنساء الباحثات عن كل فن . وربما تجد عندها زائرة في السادسة صباحا .. لكن الصالون في آواخر عهده أصبح يتبع أسلوب " الشلليّة " وكله بفضل الناطقة الرسمية " أم لسانين " التي تقرّب هذه وتبعد تلك . ومع أن " أم قرين " لا تجيد قراءة الفاتحة إلا أنها تفتي في أكبر المسائل الفقهيّة .. ولا يمكن أن تقول لا أعرف .. حتى وإن أدّت الفتوى بصاحبتها المستفتية إلى جهنم .. ولو قدّر أن سألتها إحداهن سؤالا وهي لا تعرفه وتعرف أن عامة النساء يعرفنه ولكي لا تقع في الحرج ربما تقول للمستفتية : دا سؤال يا أم فلان ؟ّ! . دا إبنك الزغنون في الابتدائية يعرف الجواب .. إختشوا على دمكوا ! قطعا هي لا تتحدث باللهجة المصرية . لكن المخرج عايز كده !
وقد لعبت الناطقة " أم لسانين " دورا في خراب صالون " أم قرين " وعدم الثقة فيه ، كان آخرها حادثة " العقرب " .. فقد أشيع أنّ في صالون أم قرين " عقرب " .. فما كان من الناطقة " أم لسانين " إلا أن صرّحت من بيتها وقبل أن تغسل وجهها ، فنفت الخبر جملة وتفصيلا ( حسبي الله على الحاسدين ) . كانت أم لسانين تعتقد أن وجود عقرب في صالون " أم قرين " يعدّ فضيحة ، ويهز سمعتها ومركزها ، لذلك نفت الخبر . وكان الأجدر بها أن تذهب إلى صالون أم قرين وتتأكد فربما وجدت تمساحا أو ديناصورا .. وبما أن الأمر يتعلق بحياة أم قرين فقد استدعت فريقا من الخبراء للبحث عن " العقيرب " . كان الأجدر أن تقوم مديرة الصالون أم قرين بنفي أو إثبات الخبر .. ففي مثل هذه الحوادث يريد ساكني الدور " مدير رسمي " وليس " ناطق رسمي " لأن أم قرين أدرى بالعقرب .
ماتت أم قرين دون تكريم من أحد .. وهي التي كانت تعلّم البنات الخياطة والنسج والخرز والدباغة ، وتعلّم الأولاد صناعة " المقلاع " ، وأعطت خبراتها العلاجية لجمع من النساء .
رحم الله أم قرين فقد كانت تستحق التكريم ولو بستة خرفان وقطعة أرض إن شاء الله في مقاطعة كوداك " دمج " .
والسلام