كنت أنا وجدتي يرحمها الله - في غرفة من الطين , وكانت تقص علي خبر " تغريبة بني هلال " الدرس الحادي عشر من دروس التعاليل في ليلة من ليالي المربعانية , حيث البرق يلمع , والرعد يقصف , والريح تعصف . وكيف أنَ " أبو زيد " ورد سيل الزرقا واحتال على " شبيب بن مالك " فقتله ، إلى أن وصلت بي إلى تونس الخضراء وما جرى بين أبي زيد والزناتي خليفة من وقعة سودة . فكان الجو مفعما بعبق التاريخ المجيد ولا يعكر صفوه غير سحب الدخان المتصاعدة من الموقد والتي ملأت أركان الغرفة ، فشاغلتني دموعي عن التركيز في مجريات الأحداث وما كان من شأن ذياب بن غانم , فقالت لي وقد رأت ما حلَ بي : إنبطح على بطنك يا وليدي ! وبالفعل كان الانبطاح سبيلا للنجاة . فقلت : يسلم مخك يا جدتي ! فكانت نظرية " الإنبطاح " هي المبدأ والحل لكل مشكلة .
كم تبدو الحياة سهلة وغير مكلفة في نظر جدتي ! .. فبدلا من أن تحدث خرقا في سقف الغرفة " مدخنة " ليخرج منها الدخان أمرتني بالانبطاح .. وقد ألازم الانبطاح سنين طوال حتى أكتشف أن البيوت في " موزمبيق " لها مداخن . ومرة أخرى : يسلم مخك يا جدتي وذلك مبلغ قدره .. ورحم الله المتنبي !
وحين نبت في فكي ضرس العقل ، تذكرت ما توصل إليه مخ جدتي من حل لمعضلة الدخان . فقلت في نفسي : يرحمك الله يا جدتي , أين أنت من معضلة وكالة ناسا ؟!.. ففي تلك الأيام الخوالي حيث كانت جدتي تقص علي خبر " أبو زيد " كان الأمريكان يستعدون للهبوط على سطح القمر ( ناس فاضيين ) , لكن واجهتهم مشكلة " القلم " الذي سيرافق الرحلة لتدوين الملاحظات .. فقاموا بإجراء عدة تجارب لصناعة قلم يعمل في ظروف إنعدام الجاذبية والوزن . فكان الحل السهل وغير المكلف عند الإخوان الروس والذي تمثل في قلم الرصاص . ولو أني سألت جدتي عن الحل لتلك المعضلة التي واجهت الأمريكان لقالت ببساطة وهي ترتشف فنجال القهوة : قطعة فحم يا وليدي !
صعبة يا أمريكان ؟!
سألتها ذات تعليلة : من أين لك هذا ؟ قطعا لا أعني ما في مخباتها من دراهم معدودة أو غير معدودة , ملطوشة أو غير ملطوشة ، فلست بالمسئول عن نزاهة جدتي .. وهي نزيهة بما يكفي والدليل أنها ماتت وفي ثوبها من الرقع ما يفوق عدد قارات العالم . لكني سألتها عما يتفتق عنه مخها من نظريات وأولها نظرية " الإنبطاح " سيئة وسالفة الذكر فقالت : شوف يا وليدي اللي له عيون وراس يسوي سوات الناس !
يومها تحسست إن كان لي " عيون وراس " كعيون ورأس جدتي ، فكان أن وجدت . وفي الحقيقة أن نظرية جدتي بتاعت " عيون وراس " لا تعتمد على معادلات رياضية أو خلطات كيميائية .. وبما أن هناك فرق بين القانون والنظرية فإن ما تمخض عنه مخ جدتي يندرج تحت وسادة " حكي في حكي " كشأن أغلب النظريات التي يتشدق بها المنظرون .. ومع مرور الزمن اكتشفت أنَ جدتي لم تكن منظرة ، وإنما كانت ناقلة لعدوى النظرية . أي أنها ورثت النظرية عن جدتها السابعة عشرة .. أي قبل نيوتن وأنشتاين .
وبما أن التفكير ضرورة شرعية وحتمية عقلية فإن ما قالته جدتي يعتبر قاعدة انطلاق نحو التطور , ذلك لمن كان له " عيون وراس " .
قطعا كان لجدتي " عيون وراس " ، لذلك أصبحت في أواخر أيامها تغسل رأسها بالشامبو الباريسي ولو طال بها العمر لصبغت وجهها بالمكياج الياباني ولتكحلت بالكحل السويدي وربما وضعت على عينيها العدسات الروسية الملونة فتبدو كهولندية بعيون زرقاء وهي التي كانت تغسل رأسها بعبس الإبل وتجلو أسنانها بالرماد .
رحم الله جدتي فلو طال بها العمر لكانت صاحبة شركة استشارية تضع الحلول لمشاكل تكلف الملايين وفي مقدور جندي مرور أن يرشدنا إلى مواقع الاختناقات المرورية لا أن تأتي شركة استشارية وتلهف الملايين (مطرح ما يسري يهري ) . ولو وصل الخبر إلى جدتي قبل أن تلفظ أنفاسها لقالت : أليس أهل مكة أدرى بشعابها !
صعبة يا جماعة ؟!
وأخيرا يرحم الله جدتي فقد كان لها " عيون وراس" .. أما أنا فما زلت على قيد الحياة أبحث عن " أبو عيون وراس " , كشأن كل من لا جدة له . ومن كان منا بلا خطيئة في حق عينيه ورأسه , فليرجم هذا المقال بحجر .
والسلام
كم تبدو الحياة سهلة وغير مكلفة في نظر جدتي ! .. فبدلا من أن تحدث خرقا في سقف الغرفة " مدخنة " ليخرج منها الدخان أمرتني بالانبطاح .. وقد ألازم الانبطاح سنين طوال حتى أكتشف أن البيوت في " موزمبيق " لها مداخن . ومرة أخرى : يسلم مخك يا جدتي وذلك مبلغ قدره .. ورحم الله المتنبي !
وحين نبت في فكي ضرس العقل ، تذكرت ما توصل إليه مخ جدتي من حل لمعضلة الدخان . فقلت في نفسي : يرحمك الله يا جدتي , أين أنت من معضلة وكالة ناسا ؟!.. ففي تلك الأيام الخوالي حيث كانت جدتي تقص علي خبر " أبو زيد " كان الأمريكان يستعدون للهبوط على سطح القمر ( ناس فاضيين ) , لكن واجهتهم مشكلة " القلم " الذي سيرافق الرحلة لتدوين الملاحظات .. فقاموا بإجراء عدة تجارب لصناعة قلم يعمل في ظروف إنعدام الجاذبية والوزن . فكان الحل السهل وغير المكلف عند الإخوان الروس والذي تمثل في قلم الرصاص . ولو أني سألت جدتي عن الحل لتلك المعضلة التي واجهت الأمريكان لقالت ببساطة وهي ترتشف فنجال القهوة : قطعة فحم يا وليدي !
صعبة يا أمريكان ؟!
سألتها ذات تعليلة : من أين لك هذا ؟ قطعا لا أعني ما في مخباتها من دراهم معدودة أو غير معدودة , ملطوشة أو غير ملطوشة ، فلست بالمسئول عن نزاهة جدتي .. وهي نزيهة بما يكفي والدليل أنها ماتت وفي ثوبها من الرقع ما يفوق عدد قارات العالم . لكني سألتها عما يتفتق عنه مخها من نظريات وأولها نظرية " الإنبطاح " سيئة وسالفة الذكر فقالت : شوف يا وليدي اللي له عيون وراس يسوي سوات الناس !
يومها تحسست إن كان لي " عيون وراس " كعيون ورأس جدتي ، فكان أن وجدت . وفي الحقيقة أن نظرية جدتي بتاعت " عيون وراس " لا تعتمد على معادلات رياضية أو خلطات كيميائية .. وبما أن هناك فرق بين القانون والنظرية فإن ما تمخض عنه مخ جدتي يندرج تحت وسادة " حكي في حكي " كشأن أغلب النظريات التي يتشدق بها المنظرون .. ومع مرور الزمن اكتشفت أنَ جدتي لم تكن منظرة ، وإنما كانت ناقلة لعدوى النظرية . أي أنها ورثت النظرية عن جدتها السابعة عشرة .. أي قبل نيوتن وأنشتاين .
وبما أن التفكير ضرورة شرعية وحتمية عقلية فإن ما قالته جدتي يعتبر قاعدة انطلاق نحو التطور , ذلك لمن كان له " عيون وراس " .
قطعا كان لجدتي " عيون وراس " ، لذلك أصبحت في أواخر أيامها تغسل رأسها بالشامبو الباريسي ولو طال بها العمر لصبغت وجهها بالمكياج الياباني ولتكحلت بالكحل السويدي وربما وضعت على عينيها العدسات الروسية الملونة فتبدو كهولندية بعيون زرقاء وهي التي كانت تغسل رأسها بعبس الإبل وتجلو أسنانها بالرماد .
رحم الله جدتي فلو طال بها العمر لكانت صاحبة شركة استشارية تضع الحلول لمشاكل تكلف الملايين وفي مقدور جندي مرور أن يرشدنا إلى مواقع الاختناقات المرورية لا أن تأتي شركة استشارية وتلهف الملايين (مطرح ما يسري يهري ) . ولو وصل الخبر إلى جدتي قبل أن تلفظ أنفاسها لقالت : أليس أهل مكة أدرى بشعابها !
صعبة يا جماعة ؟!
وأخيرا يرحم الله جدتي فقد كان لها " عيون وراس" .. أما أنا فما زلت على قيد الحياة أبحث عن " أبو عيون وراس " , كشأن كل من لا جدة له . ومن كان منا بلا خطيئة في حق عينيه ورأسه , فليرجم هذا المقال بحجر .
والسلام